محمد جبريل
الإنسان.. والبطل الأسطورة
للمستشار الألماني الأسبق كونراد أديناور مقولة "إذا أردت أن تستولي علي محطة سكة حديد. فعليك أولاً أن تقطع تذكرة". بمعني أنه علي المرء أن يبدأ من البداية في ما ينوي القيام به. وحين بدأ بيكاسو في رسم لوحاته التجريدية فإنه كان قد درس التشريح. وهضم المدارس الفنية المختلفة.
في أثناء انشغالي بكتابة مصر في قصص كتابها المعاصرين "كان يداخلني الشعور نفسه الذي داخل تشيخوف ــ ذات يوم ــ بأنه لا يكتب ما يرضي عنه. ولا يتضمن قيمة أدبية حقيقية. فقرر ــ كما قال في إحدي رسائله ــ أن يختبئ في مكان ما لبضع سنوات. ينجز خلالها عملاً جاداً ومثمراً. كان ذلك العمل ــ في تطلعي ــ هو دراسة الشخصية المصرية من خلال إبداعات أدبائها.
ألقيت السؤال علي نفسي. بعد أن غادرت "السمارة" و"السنبلاوين" كلها: لماذا كان ذلك الحرص الغريب علي أن أخالف نصائح مأمور المركز والعمدة وشيوخ العائلات. وألتقي محمد أبوعبده أو ابن بمبة؟
لم أكن أبحث عن مغامرة مثيرة. كان ذلك أبعد من أن يفد إلي خاطري. إنما هو تصور بأن الحياة في كل أبعادها واجب الفنان ليفرز معطيات تعانق الصدق. الصدق هو الفرق بين الكتابة عن صورة وردة في كتاب. وتأمل وردة حقيقية. وتشمم رائحتها.
سيد فيات. تعرفت إليه في مسقط كان يعمل سائقاً لسيارة نقل ثم عاد إلي دكانه في ميدان النعام بالقاهرة سروجياً للسيارات. بعد أن اشتري لنفسه سيارة فيات. من هنا أطلقنا عليه التسمية. كنت حريصاً علي صداقتنا. أزوره وأجالسه في المقهي القريب وأتعرف إلي أصدقائه من حرفيي الحي والمترددين عليه. وأتعرف إلي مشكلات وتعبيرات وحياة متجددة أنفذ إلي الواقع وأحاول التعبير عنه مستفيداً مما يتيحه لي الخيال. أرفض مجرد استنساخ الواقع. أو محاكاته. أو حتي إدراكه. أذكر قول يوسا: لم تعد الرواية في خدمة الواقع. لكنها تستخدم الواقع.
إذا كان لوكاتش يري في ضياع الشخصية وانقراضها النهائي. مضموناً فعلياً للرواية الجديدة. فإن ما أكتبه يصعب ــ بهذه النظرة ــ أن ينتسب إلي الرواية الجديدة. لأن الشخصية البطل موجودة وواضحة القسمات ولها كينونتها في أعمالي.
باختصار فإن معظم شخصياتي من البسطاء يبحثون دائماً عن الحقيقة عن أي قيمة معنوية أو مادية لا يكتشفون إلا مؤخراً أن كل القيم في داخلهم: الخير والشر والكمال والنقص والحب والكره كل شيء في داخلهم وبيدهم. بيدهم وحدهم إبراز الخير علي الشر أو العكس. وهكذا. وهم مؤمنون بالله. بتلك القوة الخفية الجبارة التي تسيطر علي كل شيء. ثمة من قد يجاهر برفض الإيمان. لكن أعماقه تنبض بهذا الإيمان. الله موجود في منطقة اللاوعي. لأنهم يتصرفون بدوافع عملية. يحكمها منطق المصلحة المادية المباشرة.
قد تبدو بعض الشخصيات سلبية فهي نماذج ضعيفة متخاذلة أمام ضغوط الحياة تتجنب أي رغبة جادة في تغيير الواقع الاجتماعي. لكن هذا الرأي يبدو غير صحيح في تولد الإيجابية من السلبية والمقاومة من السكون.
الفارق بين البطل الأسطورة والبطل الإنسان أن الثاني يحلم ويتعذب ويعاني النقائص مثل كل البشر. لكنه يتفوق علي سواه من البشر بأنه يحاول التغلب دوماً علي نقائصه. وتغليب الإيجابيات علي السلبيات. وصهر الخاص في بوتقة العام.