المساء
نادية سعد
.. ولا تعض رغيفي!!
استوقفني كثيراً رد الفعل العنيف من المواطنين علي تخفيض عدد أرغفة الخبز أو منع صرف الخبز تماماً للبعض فيما عرف بأزمة الكارت الذهبي والذي وصل للوقفات الاحتجاجية وقطع الطرق والهتافات المعادية للحكومة ووزير التموين.. وجدتني أقارن بين ذلك وبين صبر نفس المواطنين علي الغلاء الفاحش التي طال كل شيء خاصة الطعام بأنواعه بداية من اللحوم والدواجن والأسماك وغيرها.. أنه رغيف الخبز الذي يجب ألا يمس وأن تظل الدولة مسئولة عن توفيره لمعظم المصريين بسعر مدعوم مهما حمل ذلك ميزانية الدولة من أعباء.
ولرغيف الخبز مكانة خاصة لدي المصريين جميعاً ونحن الشعب الوحيد الذي يطلق عليه رغيف العيش فهو الحياة أو هو دعامة الحياة.. وعادة ما يردد المواطن البسيط أنه إذا توفر الخبز فأمر الغموس مقدور عليه.. انه يقول ذلك في أحلك الظروف وكان اعداد الخبز في المنزل من ثوابت الريف المصري لكنها للأسف تكاد أن تكون قد انقرضت ووقتها كان رب الأسرة يقول إنه مادامت "مشنة العيش مليانة فالبيت مستور".. المهم أن هذه الحالة المحزنة التي عشناها الأسبوع الماضي مع رغيف العيش وأزمة مصيلحي كما أطلق عليها دعتني للبحث عدة ساعات عن ما كتب عن رغيف العيش عند المصريين من تاريخ وتراث ومكانة وأمثلة شعبية نحفظ بعضها ونستخدمه وبعضها لا يعرفه الكثيرون.. رحلة البحث هذه خرجت منها بمعلومات أردت أن يشاركني القارئ العزيز معرفة أو يسترجعها معي ان كان يعرفها.
عرف المصريون القدماء الخبز منذ ستة آلاف سنة قبل الميلاد وتقول بعض الوثائق إن المصريين أول من اكتشف الخميرة.. وكانت أنواع الخبز تزيد علي المائة.. وكان المصري القديم يقدس الخبز ولا يرضي أن يلقي به في عرض الطريق أو تدوسه الأقدام.. ومازال هذا التقديس موجوداً ومن يجد لقمة عيش في الطريق فهو يسرع بركنها بعيداً وقد يقبلها قبل أن يفعل ذلك.. ومن وصايا الحكيم اني لابنه "ضاعف الخبز لأمك واحملها ان استطعت كما حملتك".. وفي مصر الفرعونية كان يتم إعطاء الخبز كمرتبات للبحارة وموظفي المراكب بل إن هناك حكمة فرعونية تقول "اعط الشغال رغيف تاخد من كتفه رغيفين".. وفي الريف المصري كانت مهارة العجن والخبز ترفع اسهم الفتاة المطلوبة للزواج.. فالأم تقول لابنها "ماتاخدش أم كحلة ولبانة.. وقت العجن تعمل عيانة".. و"ما يعجبكش قصتها ولا كحلتها.. وقت الخبيز يا لخمتها".
كانت الفلاحة المصرية تتعامل مع عملية عجن الخبز وتسويته في الفرن البلدي الذي كان موجوداً في كل البيوت بحب وحنان وطقوس جميلة تدل علي مكانة رغيف العيش فهي تقيم علاقة خاصة مع العجين فتكلمه وتهدهده ليثق بها ويعطيها أفضل نتيجة.. وهي تغني أثناء العجن "يا عجين اشرب شرابك ما عذاب إلا عذابك.. يا عجين لوف لوف كما لافت النعجة ع الخروف والحنة ع الكفوف".. وهي لا تجلس أمام الفرن وهي غضبانة أو حزينة أو متوترة حتي لا ينعكس ذلك علي جودة الرغيف.. ومكانة رغيف العيش تتضح من قول "بيننا عيش وملح" عند الحديث عن العشرة والمحبة.. واستخدام تعبير ابحث عن لقمة عيش كناية عن الرغبة في ايجاد عمل يتعايش منه.
أما الأمثال الشعبية المرتبطة برغيف العيش فمنها.. يا واكل قوتي يا ناوي علي موتي والجوعان يحلم بسوق العيش واللي يستكتر غموسه ياكل عيش حاف والخميرة أميرة.. أيضا وجه فلان يقطع الخميرة من البيت وفلان لا يضحك للرغيف السخن.. وشحات وعايز رغيف قمح واللقم تحوش النقم.. ولم النعمة تلمك والبطران زولان دلالة علي مصير الاهمال في التعامل مع الرغيف.. هناك أيضا من ياكل خبز السلطان يضرب بسيفه واللي ياكل لقمتي يسمع كلمتي.. وكل لقمة تنادي اكالها ولقمة هنية تكفي مية.. كل لقمة في بطن جايع اخير من بناية جامع.. وكل بدقة في الأذقة وتخفي الفرخة اللي وراها مشقة.. والعيش الحاف يربي الكتاف وادي العيش لخبازه ولو ياكل نصه.. ورجع قفاه يقمر عيش.. وعمال يلت ويعجن.. وأمثلة كثيرة أخري لا تتحملها المساحة.
هذا هو رغيف العيش عند المصريين.. هو سر الحياة بالنسبة لهم والاقتراب منه والتلاعب به ممنوع.. لكن يبدو أن الدكتور علي المصيلحي وزير التموين لا يعرف ذلك وإلا لكان دبر احتياجات المواطنين أولاً من العيش قبل اتخاذ قرار تخفيض حصة الخبز علي الكارت الذهبي الذي يمنح العيش لأصحاب بطاقات التموين الورقية ولمن فقد بطاقته الذكية بدلاً من أن يقول الحمد لله إنهم ملقوش عيش النهاردة علشان اتكلم عن قراري!!
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف