*مواقع التواصل تقتحم خصوصية الأفراد وتعتدى على حرياتهم وللأسف بعض الفضائيات تجاريهم فى الجريمة
*هناك تصور حقيقى بوجود أشخاص بعينهم أقوى من السلطات ولا يمكن المساس بهم رغم حبس رئيسى جمهورية
*«سيدة المطار» أخطأت وتلقى جزاءها.. ولكن تم التشهير بها وبالضابط
فى العقدين الأخيرين تدهورت دولة القانون فى مصر، وتدهورت قيمة القانون بنظر الناس، يأتى مواطن يسأل عن شىء أو له مطلب ما، ويكون الرد أن القانون لا يسمح ولا يقر بهذا المطلب، فيكون الرد: نعم القانون لا يسمح ولكن ممكن تمشى وتمر، ولو كنت مسئولًا يقال لك «لو عايز تمشيها هاتمشيها».
فى السلوك اليومى تحول الأمر إلى ما يشبه قاعدة عامة، الشارع المصرى لا يعترف بالقانون، تأمل الأرصفة واحتلال الباعة الجائلين وكذلك المحلات للأرصفة، بل ونهر الشارع المخصص للسير أو المرور، لاحظ كذلك اللافتات المعلقة على الحوائط، ومضمون ما بها من إعلانات وكلمات، انظر إلى الحوائط وما كتب عليها بخطوط رديئة، كلمات بعضها يصل إلى حدود البذاءة والانحطاط الأخلاقى.
انهيار القانون على هذا النحو، صاحبه ظاهرة أخرى، وهى تصور أن هناك من هو فوق القانون يتجازوه عمدًا وعن سبق الإصرار والترصد، فى الحالات العامة ينهار القانون بسبب الإهمال والتسيب والتراخى أو ما نطلق عليه «الترهل الإدارى»، وفى أحيان الجهل بالقانون، وفى هذه الأمور يكون القانون «نائمًا فى الأدراج»، يمكن أن يستيقظ فى أى هبة إدارية، كأن تقوم حملات انضباط مفاجئة أو تفتيش عابر وهكذا، لكن الحالة الأخرى وهى تصور أن القانون لا يمكن أن يطال أشخاصًا بعينهم لأنهم أقوى من السلطات التى تنفذ القانون، والمعنى أن القانون ومن يقومون عليه لا يمكنهم أن يمسوا ذلك الذى يخرق القانون، وسادت تعبيرات شعبية تعبر عن تلك الحالة مثل «ابن مين فى مصر»، «انت مش عارف بتكلم مين»، «قوم اقف وانت بتكلمنى»، والجملة الأخيرة تحولت إلى أغنية حققت نجاحًا لبعض الوقت، ثم نسيها الناس، هذه الكلمات تختلف عن المثل القديم «اللى ملوش ضهر يضرب على بطنه»، ذلك المثل يعبر عن أولئك الذين تتم حمايتهم من بعض القيود أو تمريرهم خارج دولة القانون، فى هذه الحالة لا يكون ثمة تحد مباشر أو صريح للقانون، بل يكون هناك تحايل على القانون وتستيف الأوراق ليبدو الأمر قانونيًا فى شكله، وليس تحديًا للقانون وإهدارًا عمديًا له.
وقد تعرضنا كمصريين مؤخرًا لموقف من هذا النوع، سببه المباشر مواقع التواصل الاجتماعى حول ما يمكن أن نطلق عليه «سيدة المطار»، والمشهد كما تابعناه مشادة بين هذه السيدة وأحد ضباط الشرطة بالمطار، وطبقًا لما شاهدناه فإن السيدة تجاوزت فى حق الضابط، وقالت كلمات وصدر عنها تصرفات لا تليق بأى حال، ثم قيل إنه تم تحرير محضر لها، وعرضت على النيابة العامة، وهكذا يكون الأمر ساريًا فى مجراه الطبيعى، حيث تصرفت النيابة وقررت حبسها احتياطيًا على ذمة التحقيق، الذى حدث بعد ذلك هو المثير، إذ امتلأت المواقع بأن هذه السيدة فى بيتها، تقيم فى منزلها وكأن شيئًا لم يحدث، وأن قرار النيابة لم يطبق عليها وأن والدها هدد وهدد، وأنه تم التخوف من التهديدات وأطلق سراح ابنته وبالأحرى لم تمس أصلًا، رغم قرار النيابة العامة.
والذى حدث أنه ردًا على هذه المزاعم، تم تصوير السيدة وهى فى الزنزانة ليتأكد الجميع أنها لم تفلت من قرار النيابة، وتوالت التعليقات هنا وهناك.
نحن هنا بإزاء مشكلتين وإن شئنا الدقة كارثتين:
الأولى تتمثل فى تصور البعض أن هناك من لا يمكن للقانون أن يصل إليه أو يطاله، يحدث هذا بعد ثورة طويلة وممتدة (25 يناير - 30 يونيه) ومن نتائج هذه الثورة أن رئيسين للجمهورية خضعا للتحقيق وأدخلا السجن، وكذلك تم التحقيق مع أربعة رؤساء وزراء صدر بحقهم جميعًا قرارات حبس، وهم د.عاطف عبيد، د.أحمد نظيف، د.هشام قنديل، والفريق أحمد شفيق، الذى حماه من التنفيذ فى قضية أرض الطيارين وجوده خارج جمهورية مصر العربية، حيث يقيم فى دبى.
ليس هذا فقط، بل أدخل السجن أيضًا كل من رئيس مجلس الشعب د.أحمد فتحى سرور، ود.سعد الكتاتنى رئيس المجلس زمن الإخوان، وكذلك رئيس مجلس الشورى صفوت الشريف، وفى عهد الثورة أيضًا أدخل نجلا الرئيس الأسبق مبارك (علاء وجمال) وحفنة من نواب رؤساء وزراء ووزراء ومحافظين، وبعد ذلك هناك من يصور ويروج إلى أن سيدة المطار وقف القانون عاجزًا أمامها وأمام نفوذها كما زعموا، ولا أعرف أى تفكير يمكن أن يصل بأصحابه إلى هذا التصور، والأخطر من ذلك أن هناك من يصدق ذلك ويروج له على نطاق واسع، وبمنطق رد الفعل يتم تصوير السيدة فى الزنزانة وتبث الصور، ولا نعرف هل استؤذنت السيدة فى ذلك، وهل سمحت إدارة السجن بالتصوير وتمرير الصور؟!
مسألة التصوير هذه بحاجة إلى ضوابط، بدءًا من تصوير المشهد بين السيدة والضابط داخل المطار، تحول الأمر إلى ما يشبه الفيلم الذى يعرض على مقاطع وأجزاء، وعلى أيام متتالية وكأننا بإزاء مشهد سينمائى، ما هو القانون الذى يحكم تلك المسألة؟ إن كان هناك قانون، وكيف تتم استباحة خصوصية الناس على هذا النحو.. هذه السيدة أخطأت وتجاوزت القانون وعرضت على النيابة وطبق عليها القانون، لكن ماذا عن التشهير بها على هذا النحو؟ وماذا عن الضابط الذى تنشر الإهانة التى تعرض لها بهذا الأسلوب؟!
مواقع التواصل تقتحم خصوصية الأفراد وتعتدى على حرياتهم، والمؤسف أن تجاريهم فى ذلك بعض الفضائيات.
إذا كنا نتحدث عن القانون ودولته، فليطبق القانون على الجميع، ومن المفترض أن يحمى القانون خصوصيات الناس من تطفل الكاميرات الخاصة واقتحام تلك الكاميرات حياة بعض الأفراد، ثم ينشر هذا التجاوز على الملأ.
التجاوز الحقيقى ليس فقط فيما قامت به سيدة المطار، ولكنه كذلك فى نشر صورها على هذا النحو، الذى وصل إلى حد التشهير أو التجريس، عقلية التجريس المملوكية والعثمانية هى التى تحكمنا، فى زمن العثمانيين والمماليك كان التجريس بحد ذاته عقوبة على بعض الجرائم، يحدثنا كثير من المؤرخين عن بعض عمليات التجريس، وكان منها أن يركب المخطئ على حمار ويطاف به فى المدينة، أو يركب الحمار بالمقلوب، أو يتم حلق جانبًا من لحيته أو جانبًا من شاربه ويطاف به هكذا على حمار، ويهتف به المنادون معلنين ذنبه الذى ارتكبه والقاضى الذى أقر عقوبته، ولم يكن يتلقى أى عقاب آخر، أما فى زماننا فبات التجريس شيئًا مضافًا إلى الموقف القانونى، أى أننا بإزاء عقوبة ينص عليها القانون ويتولى رجال القضاء القيام بها، يعاونهم فى ذلك رجال الضبط، أى رجال الأمن، أما عقوبة التشهير والتجريس، فهى عقوبة إضافية وربما تكون أشد من العقوبة القانونية، فى مجال الصحافة هناك قواعد وقوانين تحكم عملية النشر، ما يجوز نشره وما لا يجوز، ما يدخل فى نطاق التحريم القانونى وما يدخل فى نطاق التحريم المهنى والأخلاقى، أما مواقع التواصل فإنها لا تعرف شيئًا من ذلك، لا تحكمها قوانين ولا قواعد، وتنتهك فيها الأخلاق العامة وتنتهك خصوصيات الأفراد كل لحظة، وإلى الآن لم يتوقف أحد ليحاسب ويضع القواعد والقوانين.
المؤسف، أن عدوى المواقع انتقلت إلى بعض الصحف، وراحت تمارس التجريس، تأمل -مثلًَا- ما نشر حول قضية عرفت باسم «طليق حنان ترك»، وهكذا يكون الانحدار، والمؤسف مرة ثانية أن أحدًا لا يصيح بهم توقفوا.