ربما لا تكون قضية تمس عامة المصريين بشكل مباشر أو أولوية لمن يبحثون عن لقمة العيش إلا أنها تتصل بما نروج له عن بناء مجتمع المعرفة الجديد فى مصر وبناء دولة حديثة وتوسيع مدارك أجيال. هى قضية تمس سياسات الدولة. فلا يكفى أن نترك الجمهور على مواقع التواصل الاجتماعى يدخل فى علاقات متشابكة مع أبناء شعوب أخرى دون أن يكون النظام التعليمى ومؤسسات الثقافة والفكر قد قدمت له وجبة مشبعة عن الآخرين على الضفة الأخرى من شاشة الكمبيوتر أو شاشة الهاتف. الأسئلة شائكة وتحتاج إلى صراحة لأنها تختصر الحالة الهشة للثقافة المصرية فى حالتها الراهنة: هل نحن نعرف الآخرين حق المعرفة؟ هل نقرأ للآخرين فى السياسه والأدب والعلوم الإنسانيةـ حتى يمكن أن نصدر بحقهم أحكاماً صائبة؟ هل الدولة مكترثة بنقل معارف الشعوب الأخرى إلى القارىء العادي؟..
أحد أسرار التقدم فى كثير من الدول الصاعدة اقتصاديا يكمن فى النقل عن الآخرين فى كل المجالات والاهتمام بالترجمة هو جزء من تطوير التعليم فى دول شرق آسيا والصين واليابان وسنغافورة. وصناعة الترجمة فى العالم يبلغ حجمها ٤٠ مليار دولار أمريكى (قرابة ٧٥٠ مليار جنيه مصرى تقريبا) نصيبنا منها يكاد لا يذكر رغم أنه كلما زاد العالم ترابطا واتصالاً ازدادت الحاجة إلى النقل عن الآخرين عن طريق الترجمة. فى دراسة صدرت فى عام ٢٠١٥ عن الاتحاد الأوروبي، تبين أن كل الترجمات، فى كل فروع المعرفة، باللغة العربية يتراوح ما بين ١٥٠٠و٢٠٠٠ عنوان سنوياً وهو ما يعنى أن إجمالى الأعمال المترجمة من كل اللغات لم يتجاوز ٣٥ ألف عنوان فى عشرين عاماً، بينما لا تتجاوز النسبة من النشر عالميا ٦٪. ويتصدر الترجمة من الإنجليزية ٩٥٪ فى دول الخليج العربى و٧٥ ٪ فى مصر و٧٢-٪ فى لبنان و٢٠٪ تقريبا فى دول المغرب العربى نحو ١٠٪ وهو ما يعنى أن اللغات الأخرى لا ينالها سوى نسبة ضئيلة من حركة ترجمة ضعيفة بالأساس (وسائل النشر لم تعد مقصورة على الكتاب المطبوع فقد أصبح الكتاب الإلكترونى ـ الأقل تكلفةـ منافسا للورق فى السنوات الأخيرة).
------
لم يعد الزمن عائقا أمام انتقال الأفكار بين الشعوب..
الحقيقة أن نمط التواصل نفسه هو العائق أمام استفادة الشعوب بالأفكار!
بمعنى أن انتقال الأفكار الجديدة والمعرفة بقمم الفكر الإنسانى كانت تأخذ فترة من الزمن ويكابد المثقفون من أجل الوصول إلى كتاب جديد أو مطالعة مجلة شهيرة يعرفون منها آخر صيحات الفكر قبل ظهور الإنترنت ثم مواقع التواصل الاجتماعي. لاحظت فى السنوات الأخيرة عملية تباطؤ واضحة فى متابعتنا لإنتاج الإنسانية من المعارف والثقافة الجادة ووجود حالة من الانفصال الاختيارى بين ما يدور من نقاشات جادة فى المحافل العلمية والثقافية الأكثر تقدما سواء فى الغرب أو الشرق وبين ما نحن فيه من أوضاع تعيد إنتاج الماضى والاستغراق فيه باستثناء فئة قليلة من الباحثين والمثقفين لا تتناسب مع الانفتاح العظيم للتواصل الإلكترونى بين البشر.
السؤال الدائم عن الفرص الضائعة لن يجدى نفعاً. والماضى بعضه مهم، وليس كله، حتى نعيد إنتاج معارفه دون أن نهتم بالحاضر. هناك احتياج لمعرفة آخر ما يقرأه العالم وأحدث ما تنتجه مراكز الفكر والتنوير فى الجامعات العالمية حيث مازال النقل، بالترجمة، عن اللغات الرئيسية فى العالم فى أدنى مستوياته باللغة العربية.
واحدة من قنوات التواصل بين المجتمعات المتقدمة هى الترجمة والنشر على نطاق واسع وهو الشائع فى التواصل بين المجتمع الأمريكى ومجتمعات غرب أوروبا وبين الروس والصينيين واليابانيين على مدى عقود طويلة رغم كل ما يقال عن مركزية الثقافة الغربية. لا يكفى أن نوفر المعارف بلغات أصلية من خلال مشروعات رائدة مثل بنك المعرفة لأن هناك جمهورا عريضا يريد أن يستفيد من حجم المعرفة الضخم فى كل أنحاء العالم. كان يمكن اختصار الإنفاق على مشروعات إعلامية ضخمة وتوجيه قدر يسير إلى حركة جديدة للترجمة تشارك فيها الجامعات الكبرى مثل جامعة القاهرة ومكتبة الاسكندرية ووزارة الثقافة ممثلة فى المركز القومى للترجمة لوضع خطة طموحة تعيد الاعتبار للمترجم وتقف بجانب دور النشر العامة والخاصة فى سبيل رعاية مشروع عائده سيعود على عقول الملايين من الأجيال الشابة ويخرجنا من دوامة التراجع فى التفكير بالانفتاح على الآخر دون خوف أو ريبة.
فهل يناسب مجتمع يريد أن يضع أقدامه على عتبات الدول المتقدمة أن ينتظر ترجمات لأهم الكتابات بعد صدورها بسنوات وعندما يصدر مؤلف بلغة أجنبية بالعربية يكون العالم قد سبقه بالنقاش والحديث عنه قبلها بسنوات(!) والنتيجة أننا متأخرون كثيراً. واحدة من فضائل التنوير فى الغرب، وهو يحتفل العام الحالى ببدء عصر الإصلاح الدينى قبل ٥٠٠ عام على يد مارتن لوثر فى ألمانيا، هو سرعة نشر الأفكار وعدم الانغلاق على الذات بما أثمر مجتمعات متقدمة ومعرفة علمية راسخة وعلوماً إنسانية بازغة بينما نحن مازلنا غير قادرين على الخطوة الأولى رغم الاحترام لما قدمه الرواد فى مائة عام أو أكثر!
قضية التواصل مع الثقافات الأخرى ليست رفاهة وتحمل أهمية قصوى فى عالم اليوم؟ فهل تعرف قلة، مجرد قلة، منا اليوم من هم اصحاب الإسهامات الأبرز فى الفكر الإنسانى اليوم؟ وهل نتابع إنتاج دور النشر العالمية ؟ أشك!.