فى كتابه «غيمة أربطها بخيط» والصادر حديثا فى بيروت، يستعيد الشاعر والكاتب اللبنانى «عبده وازن» الحياة عبر الحلم، ينفذ إلى جوهرها الثرى عبر التخييل المحض، المرتكز فى جوهره على جملة من التصورات المعرفية عن ماهية الأحلام وتجلياتها المختلفة، فيتماس مع مقولات فرويد ويونج، وابن سيرين، وعبدالغنى النابلسي، وأرطميدورس العالم الإغريقى الذى يعد كتابه «تعبير الرؤيا» جذرا مركزيا فى هذا السياق.
تتواتر الأحلام وتتوزع فى النص لتحيل إلى عالم مسكون بالنوستالجيا والفقد والاغتراب، وتصبح استعادة الحلم استعادة لعالم شفيف، ينطلق من اللاوعى الفردى ليحيل إلى ذلك اللاوعى الجمعى المضطرب والمأزوم، وتصبح طاقة المجاز المهيمنة على العنوان تعبيرا دالا على رغبة عارمة فى التحليق، فى الفرار عبر الحلم من سطوة واقع قاس وموحش، وتنفتح طاقة التأويل عبر جملة من الشحنات العاطفية والفكرية التى يختزنها المعنى، ويصبح عنوان الكتاب بنية دالة قادرة على أن تؤدى وظيفة داخل مسار الكتابة الجامعة بين السرد والشعر، واقفة على تخوم النوع، وغير معنية بالتجنيس الأدبي، أكثر من كونها مشغولة بروح النص/ الحلم، وربما تبدو الإشارة النصية الأولى إلى المفردة المركزية فى العنوان «غيمة» تلوح فى الحلم شديد التكثيف «وجه»: « قناع يسقط عن وجهي، يليه قناع ثم قناع.. لمّا أمام المرآة رفعت يدى لألمس وجهى لم أجد سوى غيمة تغادر بهدوء منطلقة نحو السماء» وتحضر الغيمة التى تحلق فى السماء فى مقطع دال آخر يحمل اسم القارئة:سلعلها تبصر غيمة تحلق فى سماء، لعلها ترى غابة أو بحرا لعلها تنظر إلى صورة لها تتطاير فى بياض عينيها». إنها غيمة مغايرة إذن، يسكنها الارتحال القلق، لا زمانية الطابع، لكنها موصولة بخيط الأحلام السارى فى متنها، فيحيلها إلى معنى متجدد، عابر وإنسانى ومحلق.
يتشكل الكتاب من قسمين مركزيين، أحدهما جمالي، والآخر رؤيوي، ففى القسم الأول الذى يحتل الحيز الكمى الأكبر من متن الكتاب، نرى حضورا ضافيا لتنويعات شتى من الأحلام، تتفاوت فى بنيتها الكمية، فتبدو المقاطع إما قصيرة مكثفة أو شديدة القصر لكنها موحية، وفى الحالين ثمة بنية مهيمنة على النص، تتمثل فى بنية الحلم الذى يعيد صوغ العالم على نحو رهيف، فيسائله حينا، أو يسترجع ما فات للذات الساردة/ الحالمة حينا ثانية، أو يستغرق فى التمنى المستحيل تارة ثالثة، وفى كل يبدو الحلم طيفا مراوغا، عصيًّا على الإمساك به، يتخذ صيغا جمالية متعددة، تنحو صوب تفعيل المنطق الحدسي، أو توظيف إمكانات الحواس المختلفة، ومن ثم سنجد نصوصا/ أحلاما تبدأ هكذا: - سمعت- أبصرت- نظرت- مرّرت يدي،..، وتعتمد بنية الحلم هنا على المزج الواصل بين الواقعى والمتخيل، والاستدعاء لشخوص حقيقيين فى سياق تخييلي، فتصبح الأحلام نفسها بحثا عن المعنى عبر اللاشعور الذى يختزن جملة من الخبرات الحياتية والإنسانية، ونسقا مكملا للجوهر الإنسانى فى استعادته لجانب من إنسانيته المهدرة. هنا يحضر أنسى الحاج وأدونيس وشوقى أبو شقرة، وغيرهم، ويصبح حضورهم منتجا للدلالة داخل الحلم وخارجه، كما تصبح الإحالة منطقا أصيلا للنص ، حيث نصبح أمام جملة من الإشارات الدالة إلى شخوص وأشياء خارج الحلم/ داخل الواقع، فنرى جملة من الإحالات المعبرة إلى جورج شحادة ومسرحيته سهرة الأمثال، ولامبرتو إيكو وروايته البديعة اسم الوردة، وكوروساوا وأحلامه، خاصة حلمه الرابع «النفق» ونيتشه وعمله الملهم «هكذا تكلم زرادشت» فضلا عن دانتى إليجيرى وأبى العلاء المعرى اللذين يدور بينهما حوار مكتنز يضفره الكاتب فى بنية السرد؛ ولأن منطق الحلم يمثل ذلك المستوى المسيطر على الكتابة هنا؛ لذا فإن أبا العلاء ودانتى ستأخذهما غفوة يتبادلان فيها الحوار فى النص/ الحلم:«جلس أبو العلاء ودانتى تحت شجرة ثم أخذتهما غفوة فناما. قال دانتى وهو فى عز نومه: «أتبصر يا أبا العلاء هذه الشمس الساطعة فى قلب الظلام؟ ما أجملها، أجاب أبوالعلاء. ولكن عليك أن تبصر السماوات التى تعلوها. وكل سماء ذات لون. أضاف دانتي». تتجادل هنا رؤيتان للعالم ويطرحهما الكاتب بوصفهما حلقتين متجادلتين فى مسار الثقافة الإنسانية بتنوعها الخلاق الذى يجب أن ينهض على التجاور لا التراتبية والإقصاء.
فى «غيمة أربطها بخيط» يجابه عبده وازن الموت، ويعانق الحياة، وعلى الرغم من مأسوية بعض الأحلام وعبثيتها التى تجعلها حاملة نزوعا كافكاويا بامتياز، إلا أن ثمة انتصارا للحياة التى تصير حلما مثلما يصير الحلم حياة، يقول الكاتب فى نص «التابوت»: «عربة دفن الموتى، فُتح بابها الخلفي، ثم انزلق منها تابوت ووقع على الطريق. السيارات وراءها توقفت خشية الاصطدام. غطاء التابوت سقط أرضا، ثم نهض منه رجل يرتدى بذلة رسمية. سوّى بيديه ربطة عنقه وفر راكضا وكأن شرطيا يطارده. أما نحن الواقفين على الرصيف، فرُحنا نصفق له بقوة».
أما القسم الثانى الذى يبدو بمنزلة التأسيس المرجعى لجملة الأفكار الحاكمة للنص فيختتم به وازن كتابه، ويضع له عنوانا فرعيا «الحلم حارس النوم والنوم أرض كنوزه» وينتصر فيه عبده وازن ليونج فى مقابل فرويد، وبما يعنى انحيازه صوب معنى الحلم حين يصير أعمق من الرغبات المكبوتة داخلنا، فيرمم جزءا معتبرا من حيواتنا المنسية، وبهجاتنا القليلة، ومآسينا التى لا تنتهي، سنرى فى هذا القسم تفعيلا لمنطق التجاور الإنساني، الذى يعد فكرة ما بعد حداثية بامتياز، فنرى فرويد ويونج وأرطميدورس جنبا إلى جنب ابن سيرين وعبدالغنى النابلسي، كما ينفتح فصل «القوى البدائية» على الصنيع المهم لجوزيف كامبل الذى استفاد كثيرا من «يونج» حيث رأى كامبل فى أحلامنا المعاصرة امتدادا للأساطير القديمة فى كتابه «البطل بألف وجه».
وبعد.. تبدو غيمة عبده وازن محلقة فى الحلم من جهة، ومشدودة إلى الواقع عبر خيط من الذكريات والهواجس والمعانى المتخيلة من جهة ثانية، غير أنها لا تسعى إلى شيء سوى الحفاظ على إنسانية الحلم، والمعنى، والروح التى تنحاز للجمالى وحده دون غيره.