الوطن
خالد عكاشة
سطور خجلى فى حضرة الأبطال
فى الأسبوع الماضى حلّ علينا تاريخ 9 مارس، وهو يوم البطولة الفريدة الخالصة لوجه الله والوطن، «يوم الشهيد». اختير اليوم فى ذكرى استشهاد الفريق أول عبدالمنعم رياض، رئيس أركان حرب القوات المسلحة المصرية، فى أصعب وأدق محطات مسيرتها الطويلة، حيث كانت مكلفة بالعمل على تحرير سيناء المحتلة حينئذ. فى 11 يونيو 1967م، اختير رئيساً لأركان حرب القوات المسلحة، ليبدأ مع وزير الحربية والقائد العام للقوات المسلحة الجديد الفريق أول محمد فوزى إعادة بنائها وتنظيمها، للقيام بالمهمة الهائلة التى كلفت بها.

ربما آلاف من الأحداث والوقائع والمعارك التمهيدية، شغلت الفترة منذ تاريخ 11 يونيو 1967م، حتى يوم استشهاده فى موقع الصف الأول لقواتنا على الضفة الغربية للقناة 9 مارس 1969م، فى ظل إرادة وطن لخوض محركة حتمية لاسترداد الأرض وصناعة الانتصار، عنوان المهمة قد لا يشغل سطراً كاملاً، لكن تظل تفاصيله بحجم بناء جيش والتخطيط لخوض معركة كبرى. تلك التفاصيل هى ما ألصقت بالرجل صفة «الجنرال الذهبى»، وهى التى دفعته تلقائياً ليوجد بالصفوف الأولى حتى تمتد البطولة من حيّزها الشخصى، لتصير عنواناً لمعركة كاملة ومرجعاً يمكن القياس عليه. عبدالمنعم رياض شغل منصب رئيس أركان سلاح المدفعية عام 1960م، قبل أن يتركه ليشغل الكثير من المواقع الأخرى، ما جعله كمقاتل محترف ملتصقاً بسلاحه وقت انطلاق نفير المعركة، وهو ما يمكن اعتباره الدافع الرئيسى كى يوجد فى موقع للمدفعية يقع على حافة القناة وسط لهيب معركة شرسة «حرب الاستنزاف». فالمعلوم أن رئاسة الأركان التى كان يشغلها حينئذ هى المسئولة عن إدارة العمل العسكرى لجميع أسلحة الجيش، مما يجعلها أكثر استغراقاً فى «غرف العمليات» التى تمنح صوراً ورؤى ومتابعات أكثر شمولية، وينصب جهد واحترافية رئاسة الأركان على قدرة إدارة التنسيق بين جميع عناصر مسرح العمليات.

لم يغفل «رياض» بالطبع هذا الشق الرئيسى من عمل الأركان، وإلا لم تكن «حرب الاستنزاف» ستحوز هذا القدر الكبير من الأهمية فى التاريخ العسكرى للصراع العربى - الإسرائيلى، بما أنتجته من تحول كامل فى مسار هذا الصراع، خصوصاً فى شقه العسكرى، ربما تلخيصها يمكن رصده فى ما هدمته من نظريات احتلال الأرض تحت الغطاء الدولى الداعم بالقوى العظمى. وإمكانية إدارة معارك بالسلاح والإمكانات الذاتية والخطط المبتكرة للالتفاف حول عدم توازن الإمكانات، فى ظل حسن وذكاء إدارة المحدود لحصد نتائج تدفع فى طريق التحرير والانتصار. تلك الكلمات استلزمت تضحيات وبطولات خارقة بدأت من المجند الفرد واتسعت لتشمل جميع مراتب العمل العسكرى، لكنها -قبلاً- كانت فى حاجة إلى مفتاح ذهبى شكله قيادات تلك الحقبة الأكثر لمعاناً فى التاريخ العسكرى المصرى. وما استجد على عقيدة إدارة المعركة أن القائد ألزم نفسه طواعية بأن يكون الجندى الأول فى موقعه، لم تكن هناك تعليمات أو أوامر تصيغ هذا المتغير، بقدر ما جاءت عفوية تحت وطأة الموقف على الجبهة، منذ انطلاق الرصاصات الأولى لمعركة «رأس العش» يونيو 1967م، وصولاً إلى النصر العظيم فى أكتوبر 1973م، صنع هذا المتغير الجديد آلاف القيادات الأبطال «الحقيقيين» الذين كانوا يسيرون بشكل اعتيادى على الأرض، ليس فقط فى ما بين جنودهم ومواقعهم، لكن داخل حيز ما اختاروه فى نقطة المقدمة.

وفق تلك المعادلات الجديدة لم يكن سؤال المعركة يدور حول نتيجتها، فهؤلاء كان النصر بإيمانهم يقيناً، فقط التساؤل ظل يتعلق بالتوقيت، وبقى الاختيار الثانى هو الشهادة وحدها، وأيضاً كطريق لصنع الانتصار. وهنا كان بجوار عبدالمنعم رياض، إبراهيم الرفاعى، والشاذلى، والجمسى، وعبدالمنعم خليل، وواصل، وفؤاد غالى، وأحمد حمدى، وباقى زكى يوسف، والدالى، وطلال سعد الله، وحيدر دبوس، زحام هائل من الأبطال وغيرهم من المجهولين عطروا الجبهة بأنفاسهم قبل دمائهم، ممن قضوا نحبهم وممن تجلد فى نقطة المقدمة، ملتصقاً بموقعه وسلاحه، تغيرت على وقع عرق ودم هؤلاء الرجال العقيدة القتالية المصرية إلى الأبد، وصار وجود القائد الثانى للجيش فى خندق أمامى يدير ويقيم اشتباكاً بالمدفعية منطقياً ومذهلاً فى آن واحد، لتظل وقفته تلك هى المرجعية التى لا يمكن لأحد النكوص عنها، فدونها الموت أو العار.

فى نفس هذا الأسبوع الذى تحل به ذكرى «يوم الشهيد»، كانت أرض سيناء المروية بدماء أبطالنا على موعد مع عمليتين إرهابيتين فى فصل من فصول الحرب على الإرهاب، فى إحداهما استُشهد العقيد ياسر الحديدى مفتش الأمن العام، والرتبة الأكبر، فى مهمة أمنية، وفى الأخرى استُشهد المقدم فتحى قدرى عيد والنقيب أحمد بهاء الدين عبدالحكيم الرتبتان الأقدم فى قوة أمنية، وفى كلتا العمليتين كان المصابون من الرتب الأقل بطبيعة مواقعهم الأبعد قليلاً عن مصدر الخطر والاستهداف. فى تلك الحرب على الإرهاب وعلى ساحة سيناء تحديداً عشرات من سطور البطولة، لكننى وقفت وأنا فى حضرة ذكريات «يوم الشهيد» أمام قافلة النور التى لم تخلف عقيدتها بعد مرور تلك العقود، فرغم ألم وفداحة الخسارة، ظل للفخر مكان بالمشهد الإنسانى وبالمهمة الوطنية. بقدر جلال الوقوف بحضرة هؤلاء الذين ذهبوا بالنور، يبقى يقين الانتصار حاضراً، طالما لا تزال العقيدة النقية للبطولة هى الحاكمة لترتيب المهمة التى يقوم بها هؤلاء الرجال، فالقائد مكانه على رأس القوة فى أى تحرك، وهو المبادر بالتعامل بداية مع الخطر، حتى قبل أن يقوم بتوزيع أدوار المجابهة على معاونيه، وهو ما جرى بالفعل فى كلتا العمليتين الأخيرتين. كيف لا نغبطكم إذاً ويلهبنا الحسد والافتخار بكم وبدمائكم الزكية، وبمهمتكم المقدسة للوطن والأرض، وأنتم الأعلون فى سباق العقيدة؟
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف