انشغل الناس فى مصر يوما بمحاولة فك شفرة إعلان ذاع فى الصحف والمحطات التليفزيونية يتساءل عن «سر شويبس». لم يكن «شويبس»
كما ثبت بعد ذلك أكثر من مياه غازية لا تختلف كثيرا عن أنواع أخري؛ ولكن الغموض الذى ولده الإعلان كان كافيا بخلق ذيوع كبير لسلعة عادية. فإذا كان مثل هذا الغموض المتسائل عن أسرار غير معروفة يصلح فى سوق السلع فإنه لا ينفع فى الحياة العامة، وما يخص الناس ومستقبلهم. فالحقيقة هى أن جزءا من مصداقية الحياة العامة الالتزام بما يجرى الوعد به، خاصة لو كان مثل قانون الاستثمار أو قانون الانتخابات المحلية أو ما يماثلها من خطوات مهمة فى مسار الإصلاح المصري. فالثابت أن الدولة وعدت، وكررت الوعد، أن الانتخابات المحلية سوف تكون فى مطلع العام الحالي، ولكن ها نحن فى الشهر الثالث بعد بداية العام، ولم يصدر لا قانون للمحليات، ولا جرت انتخابات فيها، ولا عرف أحد عما إذا كان هناك انتخابات سوف تجري، أو أن الأمر فيه سر مثل ذلك الذى جرى لشويبس لا يعرفه أحد.
المسألة أكثر تعقيدا فيما يتعلق بقانون الاستثمار، ففكرته كانت مطروحة منذ سنوات، وبعد ثورة يونيو بات إصدار القانون جزءا من القاموس العام الذى يعد بالانطلاقة الكبري، سواء فى شقها المادى الخاص بالمشروعات القومية الكبري، أو فى شقها المعنوى والقانونى الذى يحفز المستثمرين المصريين على زيادة استثماراتهم، والمستثمرين الأجانب على القدوم إلى مصر. وعندما أعلنت مصر منذ عامين المؤتمر الاقتصادى فقد كان القانون أكثر ما وعدنا لمن شرفنا بحضور المؤتمر وأبدى استعداده للاستثمار فى مصر. وأيامها ذاع أن القانون سوف يتم عرضه فى أثناء المؤتمر، ثم صار الأمر أن القانون سوف يلحق بالمؤتمر بعد أن عرفنا رغبات المستثمرين. الآن مضى على الحديث عن القانون سنوات، وقيل فى أثنائها إن القانون قد بات جاهزا، ولكن لائحته التنفيذية هى التى تعوق صدوره، ولم يكن مفهوما أن اللائحة يمكن أن يكون لها هذا القدر من الممانعة، ولكن للبيروقراطية باعها الطويل فى المنع، أما إذا كان الحديث عن القانون كثيرا فإن الأمر يبدو كما لو أن المماطلة دائما تكفى لإيقاف كل المراكب السائرة.
الثابت أننا اتخذنا قرارا شجاعا بتعويم الجنيه المصري، فعاد مقياس القيمة إلى دوره فى الاقتصاد الطبيعي، وبعد أربعة أشهر على صدور القانون فى ٣ نوفمبر الماضى فإن هناك شهادات على أن الخطوة الجريئة بدأت تعطى ثمارها. الأخبار الطيبة تظهر من زيادة الاحتياطيات الوطنية، وفى زيادة تحويلات العاملين المصريين فى الخارج، وزيادة الصادرات وتخفيض العجز فى الميزان التجاري، وتحقيق فائض فى ميزان المدفوعات، وحتى السياحة ذلك القطاع المضروب أظهرت بعضا من التحسن النسبي، بل إنها بدأت تحقق فائضا بين السياحة فى الداخل والخارج؛ وبعد أن بدا أن التضخم لم يعد له سقف فإن سقفه الأعلى أخذ فى الاستقرار النسبي، أما سعر العملة الوطنية فلم يصل إلى أكثر سقوفه جنونا الذى توقعها بعض منا. أضف إلى هذا أخبارا مبشرة فى مجال الغاز والطاقة فى عمومها تعطى آمالا بالخروج من أزمة كبيرة. ولكن مثل هذه الأخبار الطيبة لا تعنى بالضرورة الوصول إلى بر الأمان الاقتصادي، هى فقط تذكر لنا أننا نسير على الطريق الصحيح؛ ولكن عربة الإصلاح لا تسير على الطريق الصحيح ما لم يتم مدها طوال الوقت بالوقود الإصلاحى الضرورى لاستمرارقوة الدفع فى الاقتصاد، والتغلب على الأخبار السيئة الممثلة فى التضخم والبطالة والانخفاض الحاد فى سعر الجنيه والعجز فى الموازنة العامة، إلى آخر ما نعرفه من أوجاع.
ما يقوله الاقتصاديون أن جزءا كبيرا من العملية الاقتصادية له طبيعة نفسية فيه الكثير من الصحة، فالتفاؤل والتشاؤم يقوم فى كثير من الأحوال على توقعات الإصلاح والسير فى الطريق الصحيح. ولا يؤلم المواطن فى الدولة قدر الغموض وعدم اليقين والشك فى أن هناك سرا لا أحد يعرفه وراء تأخير ما تم الوعد به. والمؤلم لدى المواطن هذه المرة أن قانونا لم يصدر فقط كما كان الوعد منذ فترة طويلة، ولكن أحدا لم يقل لنا لماذا لم يصدر القانون، ولا ذكر لنا أحد شيئا عن المعوقات التى تقف أمامه، وعما إذا كانت هناك اختلافات فى وجهات النظر تخص القانون فنعرف المزيد عن أحوالنا الاقتصادية والمقتربات الجارية بشأنها. المتشائمون يفسرون الأمر بأن البيروقراطية لم تفرغ بعد من إفساد القانون بوضع الكثير من العوائق أمام الاستثمار؛ أما المتفائلون فيرون أن القانون ليس هو القضية وإنما مناخ الاستثمار هو الأساس فى العملية الاستثمارية كلها.
وبعيدا عن التفاؤل والتشاؤم فإن التساؤل حول القانون يظل ملحا لأنه لا يجوز التأجيل المستمر بينما الموقف السياسى من القضية الاستثمارية كلها هو السرعة فى الاستثمار والإنجاز. فلا يمكن المضى قدما فى مشروعات البنية الأساسية دون استثمارات تستغل هذه البنية وتعظم من عوائدها وتجعل سداد ديونها ممكنا ومتاحا. لقد تغير الوزراء على وزارة الاستثمار، وجرى فكها وضمها لوزارات أخري، وتحدث الجمع الوزارى بصيغ شتى عن الشباك الواحد والامتيازات الاستثمارية التى سوف نسعى إليها. بالطبع لم يقل أحد شيئا عن مكاننا الحالى فى السلم العالمى لفرص الاستثمار، أو ما الذى سوف يجرى لنا فى معيار التنافسية الدولية. لا أحد يقول، ولا أحد يتكلم، اللهم إلا إنه من وقت لآخر يقال إن وزيرا أو وزراء تحدثوا مع الضيوف الأجانب عن المزايا المقبلة فى قانون الاستثمار الذى لم يصدر بعد. رجاء لا تجعلوا سر قانون الاستثمار مثل «سر شويبس» الذى أسفر فى النهاية عن مياه غازية مليئة بالفقاعات.