الأهرام
عباس شومان
وحدة المسلمين ودولة الخلافة
نستمع بين الفينة والأخرى إلى أحاديث عن وحدة المسلمين ودعوات عن اتحادهم تارة وعن تعاونهم تارة أخري، ولا شك أن وحدة الأمة الإسلامية هدف نبيل ومقصد عظيم وغاية سامية عبر عنها ربنا عز وجل فى غير آية من كتابه العزيز؛ حيث يقول: (إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً)، ويقول أيضًا: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا)، غير أن هذه الوحدة المنشودة ينبغى أن تكون هدفًا يسعى إلى تحقيقه الجميع على أسس سليمة ورؤية جادة يمكن ترجمتها إلى واقع ملموس يناسب الزمان والمكان.


وفى سياق هذه الأحاديث والدعوات يأخذ الحماس بعض بنى جلدتنا فتجدهم يدعون لمؤتمر عاجل هنا أو هناك لبحث الأمر، بينما يستغل بعضهم الآخر تشوق الناس لوحدة تجمعهم فتراهم رافعين راية الوحدة المنشودة، متخذين من عناوينها البراقة شعارًا وهم فى الحقيقة يتسترون وراء ذلك لارتكاب جرائم القتل والاعتداء على الأموال والأعراض، ويصدرون أحكام الردة والكفر على من خالفهم الرأى ولم يتبع فكرهم ويأتمر بأمرهم ومن لم ينخرط فى صفوفهم ويبايع أميرهم، زاعمين أنهم بهذا النهج المختل يحققون الوحدة المزعومة ويستعيدون دولة الخلافة المأمولة!

وفى الوقت نفسه، يرى بعض الناس أن مساعى وحدة المسلمين وحدة حقيقية على أى صورة كانت إنما هى أحلام أقرب للأوهام وإفناء للأعمار فى ما لا يمكن تحقيقه؛ فعلى أرض الواقع لم تتحقق هذه الوحدة على الرغم من المحاولات الجادة لتحقيقها؛ حيث لم يُكتب لها النجاح فى جمع الأمة الإسلامية أو العربية تحت مظلة واحدة تجمع الشعوب وتحقق أهدافهم على النحو المنشود، ومن ذلك ما كان من صور للاتحاد بين بعض الدول فى حقب تاريخية معينة، كالتعاون العربى الذى جمع مصر وسوريا واليمن، أو اتحاد مصر وسوريا فى مرحلة ما، إلى أن انتهى الأمر أخيرًا بتجمع الدول العربية ضمن إطار جامعة الدول العربية، وانضمام الدول الإسلامية تحت لواء منظمة التعاون الإسلامي، وتجمع بعض الدول ضمن إطار معين كمجلس التعاون الخليجي.

والحقيقة أن هذه التجمعات منها ما حقق نشاطًا وفاعلية فترة من الزمان لكنه ذهب أدراج الرياح، ومنها ما لا يزال قائمًا لكنه لم يحقق إلا بعض اجتماعات دورية هنا وهناك أو عقب حدوث بعض المدلهمات دون التوافق على بعض ما هو منشود اللهم إلا إهدار الأوقات وإنفاق الأموال من أجل الخروج ببيانات شجب وإدانة وتنديد فى أحسن الأحوال دون أن ترقى لمستوى التهديد باتخاذ موقف ما حول قضية من القضايا المصيرية العالقة أو الناشئة، ولو من باب ذر الرماد فى العيون وإثبات الوجود!

ولعل واقعنا الراهن وما تقتضيه مستجدات الزمان والمكان تدعونا إلى القول بأن الوحدة الحقيقية التى يمكن أن تتحقق وفق هذه المعطيات ليست وحدة الاندماج وإزالة الحدود والاحتكام إلى حاكم واحد ودمج الاقتصادات وتوحيد الأنظمة والقوانين؛ فقد تجاوز الزمان والمكان ذلك بكثير، ولا يمكن لواقع الدول الإسلامية التى تتخللها دول كاملة ليست مسلمة، فضلًا عن اختلاف الدول الإسلامية نفسها لسانًا وأنظمة حكم واقتصاد وقوانين اختلافًا كبيرًا، وتفاوتها من حيث الغنى والفقر والقوة والضعف؛ لا يمكن لتلك الأمور أن تكون عوامل مساعدة لتحقيق تلك الوحدة، والأمر نفسه يقال عن وحدة حقيقية فاعلة للدول العربية مع تحدثها بلغة واحدة وتقاربها ثقافيًّا وجغرافيًّا. وعلى ذلك، فتحقيق الاتحاد أو الحلف هو الأقرب للإنجاز، ولا بأس بالتأسى بدول لا يجمعها دين واحد ولا ثقافة واحدة ولا لغة واحدة، بل إن بين بعضها عداءات تاريخية محفورة فى الوجدان، لكنها اجتمعت تحت مظلة اتحاد يشملها جميعًا ويعبر عنها ككيان واحد.

وحتى يُكتب لهذا الاتحاد أو الحلف النجاح وتحقيق أهدافه المنشودة، فإن الأمر يقتضى إخلاص النية وحسن المسعى وإنكار الذات وإعلاء مصلحة الأمة على أى اعتبارات أخري، والإدراك يقينًا أن هذا الاتحاد خيارنا الأوحد لبقائنا رقمًا صحيحًا وقوة مهيبة تقف ندًّا للمتربصين بها الطامعين فى خيراتها من الإمبريالين الجدد الذين يحرصون كل الحرص على تفتيتها إلى دويلات متناثرة متناحرة ليسهل افتراسها. ويلزم كذلك إن أردنا نجاحًا حقيقيًّا لهذا التحالف أو الاتحاد، الابتعاد عن الحدود الجغرافية وأنظمة الحكم وذوبان الاقتصادات بعضها فى بعض؛ فلن يتنازل حاكم عن سلطانه، ولسنا فى حاجة إلى ذلك، ولن تسمح دولة غنية بذهاب ثرواتها إلى دولة فقيرة فتفتقر مثلها! فليبقَ كل نظام على حاله، وكل خير لأهله، وكل جيش داخل حدوده، ولكن أضعف الإيمان أن نتحد فى هدفنا وقرارنا فيما يتعلق بمصيرنا نحن المسلمين أو العرب، ولتكن هناك قوة عسكرية عربية أو إسلامية مشتركة على غرار قوة الأطلسى مثلًا، يضع المختصون استراتيجية عملها ودواعى تدخلها وقيادتها وتحديد العدو المشترك الذى تهب تلك القوة لرد اعتدائه على أى دولة من دول التحالف ثم تعود بعد انتهاء مهمتها.

ومع بقاء خير كل دولة لأهلها، يمكن استثمار هذا الخير فى بلاد الاتحاد الفقيرة زراعة وصناعة وتجارة، فيعم الخير على الجميع بزيادة غنى الأغنياء وتحقيق التنمية للدول الفقيرة، الأمر الذى يرجى معه تحقيق الكفاية والاستغناء عن تلك المساعدات التى تقدم لبعض الدول ممزوجة بشروط تقتضى الهيمنة وفرض الوصاية واستمرار الضعف والتراجع من قبل دول لا ترجو لنا خيرًا ولا تحمل لنا ودًّا وإن أبدت غير ذلك، فتكون عندئذ أموال العرب والمسلمين كلأ مستباحًا لهذه الدول أكثر من أصحابها أنفسهم!

ويقتضى مبدأ التدرج المقرر فى شريعتنا الإسلامية أن نبدأ أولًا بالتقريب بين مناهجنا التعليمية المختلفة فى البلد الواحد والمتباينة بين دولنا الإسلامية تباينًا يحتاج إلى جهود كبيرة لتضييق فجواته، ولتكن ذلك بالاتفاق على الأطر العامة للمناهج وأهدافها، كما يمكننا تبنى بعض الأمور التى من شأنها تعزيز فرص نجاح هذا التحالف كأن نتفق مثلًا على توحيد بداية الأهلة فى سائر الشهور وخاصة بدايات الصوم ونهاياته. صحيح أن ما أطرحه هنا ربما يلقى صعوبات كثيرة ويواجه بضغوطات شديدة، لكن تحقيقه ليس مستحيلًا، فقط نحتاج إلى إرادة حقيقية وسعى جاد من ولاة أمورنا، وسنكون نحن الرعية خير عون لهم على التنفيذ.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف