عبد الفتاح الجبالى
غول الأسعار ومافيا الاحتكار
ما زالت أصداء قيام مواطن بسرقة قطعة شوكولاتة من سوبر ماركت بعدما طلبها منه ابنه الصغير وعجز عن شرائها، متسارعة بشدة بين مؤيد ومعارض،
وأيا ما كان الرأى فإننا نرى انه مؤشر خطير للغاية، ويدلنا على ماوصلت اليه الأمور فى ضوء الارتفاعات المتتالية فى الأسعار، حيث أشار الجهاز المركزى للتعبئة العامة والاحصاء فى نشرته الشهرية عن الأرقام القياسية لأسعار المستهلكين الى استمرار معدل التضخم فى الارتفاع ليصل الى 31.7% خلال شهر فبراير الحالي، مقارنة بنفس الشهر من العام الماضى والاهم من ذلك ان نسبة الارتفاع فى الطعام والمشروبات قد وصلت الى معدل قدره (41.7%) وذلك بعد ان ارتفعت مجموعة الحبوب والخبز بنسبة (58.7%) بسبب ارتفاع أسعار الأرز بنسبة (72.4%), ومنتجات المخابز الجافة بنسبة (45.8%)، مجموعة الخبز بنسبة (10.2%)، والمكرونة بنسبة (32.7%), والدقيق بنسبة (76.4%). ناهيك عن ارتفاع مجموعة اللحوم والدواجن بنسبة (34.6%) بسبب ارتفاع أسعار مجموعة اللحوم الطازجة والمجمدة بنسبة (40.7%)، والدواجن بنسبة (26.1%)،واللحوم المحفوظة والمجهزة بنسبة (53.8%) الخ هذا ناهيك عن ارتفاع قيمة العديد من الخدمات.
وهنا تجدر الإشارة الى ان هذه السلع تشكل النسبة العظمى من استهلاك الفقراء والشريحة الدنيا من الطبقة الوسطى. وبعبارة اخرى فان وطأة التضخم على الفقراء أشد بكثير بالمقارنة .بالشرائح العليا.
ومع تسليمنا الكامل بأن مشكلة التضخم ترجع بالأساس الى أسباب هيكلية فى بنية الاقتصاد القومي، والتى يأتى على رأسها تراجع الإنتاج وانخفاض إنتاجية العديد من القطاعات السلعية خاصة الزراعة والصناعة وازدياد الطاقات العاطلة، الامر الذى ادى الى تزايد الحاجة للاستيراد لتغطية الاستهلاك المحلي، خاصة من المواد الغذائية ومستلزمات الإنتاج، هذا فضلا عن ارتفاع عجز الموازنة العامة للدولة مما انعكس بدوره على المستوى العام للأسعار وغيرها من الاسباب. الا انها جميعا لا تبرر الارتفاعات المتتالية فى الأسعار.
ويرى البعض ان السبب المباشر لهذه الموجة التضخمية السائدة حاليا هو التخفيضات المستمرة فى قيمة الجنيه المصرى وهذا صحيح فى جزء منه، ولكنه ليس السبب الرئيسى وخير دليل على ذلك ان ارتفاع الأسعار تجاوز كثيرا التخفيض فى قيمة الجنيه.ولذلك نرى ان السبب الأساسى لضخامة الموجة الحالية يرجع الى سيادة الاحتكارات التى تعد سمة أساسية من سمات السوق المصرية، خاصة بعد ان امتدت بآثارها لتشمل معظم قطاعات الاقتصاد، ومن المفارقات الغريبة ان هذه الاحتكارات انتشرت بعد صدور القانون رقم 3 لسنة 2005 بشأن حماية المنافسة، ومنع الممارسات الاحتكارية. وكأنه قانون لمنع المنافسة وتشجيع الاحتكارات!!!!.
وقد ترتب على ذلك ارتفاع هامش الربح بصورة كبيرة، خاصة فى مجالات السلع الاستهلاكية والغذائية، والذى يتراوح بين 300% و75% فى حين لا يتجاوز نظيره بالأسواق العالمية 8% فقط. وخير دليل على ذلك ما تعكسه مؤشرات الربحية فى موازنات هذه الشركات كما نشرت مؤخرا.
وهناك العديد من الآليات التى ادت الى ازدياد الكيانات المحتكرة للأسواق يأتى على رأسها القرارات التى تصدرها بعض الجهات الرسمية يكون بمقتضاها ايجاد نوع من الاحتكار مثل القرارات الوزارية الخاصة بالمواصفات الفنية، او قواعد الاستيراد التى أصدرها وزير التجارة والصناعة (رقم 992 لسنة 2015) ناهيك عن سوء استخدام التعريفة الجمركية بحجة حماية الصناعة الوطنية، بينما هى فى الحقيقة تغلق الأسواق على مجموعة معينة من المحتكرين وليس قرار الدواجن ببعيد. وكذلك الحصول على امتياز معين من جانب الحكومة لحق تقديم خدمة أو إنتاج سلعة معينة لمدة زمنية محددة دون ان تسمح لأى كيان آخر بالدخول إلى هذا المجال الا بعد انقضاء فترة معينة.
يضاف الى ما سبق الطريقة التى تمت بها عمليةالخصخصة فعلى الرغم من ان الهدف الأساسى المعلن هو إيجاد بيئة تنافسية فى المجتمع، بما يضمن رفع كفاءة توزيع الموارد وتحسين الأداء، اى العمل على إيجاد مناخ تنافسى ملائم، إلا إنها أدت الى نشأة العديد من الاحتكارات فى قطاعات مختلفة مثل الأسمنت والاسمدةوالسلع المنزلية المعمرة.هذا فضلا عن قيام بعض الشركات بالاندماج او الاستحواذ على شركات أخرى، مما يساعد على إيجاد كيان أكبرفى الأسواق. وهى الظاهرة التى بدأت فى الظهور فى الأسواق المصرية وأثرت بدورها على الأوضاع الاحتكارية. ناهيك عن التوكيلات الأجنبيةالتى لعبت دورا مهما فى ظهور الاحتكارات، بحيث أصبحت السوق مغلقة من الناحية العملية على عدد محدود من المحتكرين كل فى مجاله.
من هذا المنطلق فان مواجهة مشكلات التضخم والبطالة والفقر وغيرها، تحتاج الى ارادة سياسية عن طريق تفعيل دور الدولة لتعويض أوجه النقص فى عمل نظام السوق، فهناك ضرورة قصوى لضمان انضباط الأسواق ومحاربة التضخم، ولن يتأتى ذلك إلا من خلال وجود رقابة فعالة على الأسواق. مع تأكيد ضرورة ألا ننظر إلى الرقابة على أنها تدخل فى عمل الأسواق بالمعنى الذى يفقدها حرية المبادرة والتكيف مع المعطيات الاقتصادية المحيطة بها، وإنما الرقابة هدفها مواجهة الأفعال والتصرفات الضارة بالسوق ذاتها وكذلك لمواجهة الآثار السلبية الناشئة عن أفعال تهدف إلى الأضرار بالمستهلك وبالوحدات العاملة بالسوق.
لذلك يجب العمل على ضبط إيقاع السوق، وتفعيل الدور الرقابى الرسمى والشعبى من أجل حماية المواطن من أية أضرار قد يتعرض لها كنتيجة لتسلل بعض السلع والمنتجات غير معلومة المصدر، أو غير المتوافقة مع المواصفات القياسية الدولية. وكلها أمور لن تتأتى الا عبر تنظيم السوق، وضمان كفاءة آلية العرض والطلب بما يعنيه ذلك من توفير الظروف التى تجعل تفاعل العرض والطلب يتم فى إطار تنافسى حقيقى بعيدا عن الاحتكارات. وكذلك توفير المناخ الاستثمارى الجيد عن طريق إصلاح التشريعات القانونية والإدارية. وإصلاح الكيانات المؤسسية المنوط بها تنظيم السوق، خاصة جهاز المنافسة ومنع الممارسات الاحتكارية، وكذلك حماية المستهلك. وهذا يعنى ببساطة إيجاد بيئة تنافسية قوية تحد من السيطرة على الأسعار.