نجيب محفوظ هو الذي دلني علي الأب جاك جومييه. كنت قد قرأت كتاب جومييه عن الثلاثية. طلبت من محفوظ أن يعرفني بالرجل. وصف لي موضع دير الدومينكان بشارع مصنع الطرابيش. وقال في بساطته الذكية: لأنه راهب. فأغلب الظن أنك ستلقاه في أي وقت!
كان جو الأيام الأخيرة من مارس 1963 ربيعياً معتدلاً. يعمق من تأثيره الأشجار المتلاصقة في حديقة الدير. بدا في أواخر الخمسينيات. بشرة بيضاء مشوبة بحمرة. وعينان زرقاوان. صافيتان. وبسمة طيبة. تملأ ملامحه. يرتدي زي الرهبان الكاثوليك الأبيض المختلط بالبني. والصندل الذي يكاد يقتصر ارتداؤه علي رهبان الدومينكان. يضيفون إليه في الشتاء جوربا يغطي القدمين "رهبنة الآباء الدومينكان أنشأها القديس دومنيك في 2015 ميلادية".
أصارحك بأني أشفقت - في البداية - من تناول ما قدمه لي الأب جومييه: سلطانية زبادي وكوب شاي. الموروث المستقر في أعماقي هيأ لي ما لم أفلح في إهماله!. ثم و جدته مستساغاً. وأقبلت علي تناوله بتلذذ.
كنت أتصور أن كل في الدير من الكاثوليك لذلك استعدت اسم رمضان طباخ الدير حين نطقه أمامي. وفهم الرجل مغزي الاستعادة. فقال: أنا مسلم. وعرفت أن الرجل يحيا في شقة من حجرتين بالحديقة التي يطل عليها مبني الدير. وأن الأب قنواتي يتكفل بمصاريف تعليم أبنائه. وأن الرهبان يعطونهم دروسا خصوصية. بدت لي الحياة في الدير مغايرة تماما لما كنت قرأته عن مناصرة رهبان الدومينكان لمحاكم التفتيش في العصور الوسطي. والدور السلبي الذي أسهموا به في قتل عباد الله الذين لم يحصلوا علي صكوك الغفران!.. الآباء قنواتي وجومييه ومونو وشارتييه وفونتين وغيرهم. والمكتبة الهائلة "لعلك تلحظ أن عددا من كبار الباحثين أشاروا - في مقدمات كتبهم - إلي المعاونة السخية التي أفادتهم بها مكتبة دير الدومينكان". والجو المضمخ بالروحانية. والتعاطف المؤكد الذي يتعامل من خلاله رهبان الدير مع عماله من المسلمين.. ذلك كله. بدا مختلفا - إلي حد التضاد - مع الدور السلبي الذي أدته أديرة الدومينكان في محاكم التفتيش - وهو دور يفوق كل ما كان للأديرة الكاثوليكية الأخري. بداية من توفير أماكن عقد الجلسات. وإنتهاء بمباركة عقاب الخطائين!
دير الدومينكان لا يقع داخل الصحراء. كما جرت العادة عند إنشاء الأديرة "تأسس في 1932" إنه يختلف - مثلا - عن أديرة وادي النطرون والمحرق والعربة. وغيرها. فهو يقع في منطقة صناعية وسكانية. باعتبار ذلك بعدا مهما في الممارسة الدينية لرهبان الدومينكان. أن يكونوا قريبين من التجمعات الصناعية والسكانية. الدير يطل علي البيوت وصخب الطريق. وكانت نور في رواية نجيب محفوظ اللص والكلاب تطل عليه من حجرتها العلوية في البيوت المقابلة. وإذا كان محفوظ قد أفاد من خصوصية البيئة. فإن جومييه قد تفهم تلك الخصوصية. ووصلها بالبيئة المكانية لأعمال محفوظ التي كان الخلاء والصحراء والحياة علي حافة الموت محاور لها أشير - علي سبيل المثال - إلي خان الخليلي وبداية ونهاية واللص والكلاب وغيرها.
روي لي نجيب محفوظ عن المعاكسات التي لقيها رهبان الدير علي أيدي صبية حي العباسية. وكان محفوظ آنذاك. يتابع معاكساتهم. ولا يتدخل.
أضاف الأب جومييه إلي رواية محفوظ أن معاكسات الصبا لم تمنع رهبان الدومينكان من أن يكونوا هم أول من قدم نجيب محفوظ إلي الساحة الإبداعية العالمية. لم يقف الأمر عند الكتابة عن الثلاثية. أو إبداعات محفوظ الأخري في المجلات الفرنسية. وفي مجلة "ميديوي" التي يصدرها المعهد. لكن رهبان الدومينكان ترجموا العديد من روايات محفوظ وقصصه القصيرة.
وهو ما حرصوا علي أدائه للثقافة العربية. التراثية والحديثة. حتي الآن.