مؤمن الهباء
الحساسية السياسية.. وعلاجها
لن تصدق أنني التمست العذر لمجلس النواب الموقر وهو يتحدث بكل إباء وشمم عن رفض المساس به والإساءة إليه في الصحف ووسائل الإعلام.. ويهدد ويتوعد كل من تحدثه نفسه أن يخرج علي النص ويتعرض لمقامه الرفيع.. فالمسألة من وجهة نظري لا تتعلق بأشخاص الأعضاء المحترمين الذين زمجروا أمام الميكروفونات والكاميرات.. وإنما تتعلق بثقافة عامة تنتظمهم ورؤية عامة يشتركون فيها خاصة بمفاهيم مغلوطة وشائهة وقاصرة حول مبادئ حرية النقد وحرية التعبير وثقافة التنوع والتعدد والاختلاف وتداول السلطة.
التعميم هنا غير جائز بالطبع.. فهناك أعضاء مسيسون.. أمسكوا عن الكلام في الجلسة الصاخبة التي شهدت الهجوم علي الصحافة والصحفيين.. وإحالة إبراهيم عيسي إلي النيابة.. لكنني أتحدث عن الأعضاء الذين وجدوها فرصة وأظهروا عداءهم للحرية بشكل فج مبالغ فيه.
لو كان هؤلاء الأفاضل قد اطلعوا علي شيء من التثقيف السياسي.. وتدربوا علي ممارسة النقد في أحزابهم لتغيرت الصورة تماماً.. ولاتسعت صدورهم للرأي الآخر.. ولما أقسي من التعبير الذي أطلقه إبراهيم عيسي علي مجلسهم بأنه "كرتوني".. ولأدركوا أن السياسي والبرلماني يجب أن يكون النموذج والقدوة في احتمال النقد لأبعد الحدود.. لأنه هو نفسه يجب أن يكون ناقداً لاذعاً.. وهو يمارس رقابته علي السلطة التنفيذية وليس رقابته علي الإعلام والصحافة.
الثقافة السياسية تساعدك ـ يا سيادة النائب ـ علي فهم الأمور علي وجهها الصحيح.. والتخلص من النظرة الأبوية للسلطة أو النظرة القبلية.. التي تجعل من رئيسك أباً لا يجوز المساس به.. وتدفعك إلي التعصب له ظالماً أو مظلوماً.. وتخلصك من تضخم الذات وانتفاخها.. وتصور أنك ذات مقدسة وأمن قومي لا يحق لأحد الخوض فيه.. وتقنعك بأن الرأي الآخر مكمل غذائي مهم لصحتك النيابية.. وانتقاد الإعلام والصحافة لك لا ينتقص من قدرك ولا يقلل من شأنك وإنما يعطيك المناعة اللازمة لتجويد الأداء ورفع المستوي.
ومما يؤسف له أن هذه الثقافة مفتقدة في مجتمعنا.. لذلك نعاني جميعاً ـ إلا من رحم ربي ـ من أمراض الحساسية السياسية.. وعدم القدرة علي التكيف والتعايش السلمي مع الآخرين.. المختلفين عنا.. وشعارنا جميعاً "من ليس معنا فهو ضدنا وعدونا".
نحن نتحدث كثيراً عن الديمقراطية لكن لا نطيقها.. ونتغني بالحرية لكننا نضيق بها ولا نستطيع تحمل تبعاتها.. إنها ـ في ظني ـ مسألة ثقافية بالأساس.. ونحن لم نبذل جهداً كافياً لتعميق ثقافة الديمقراطية وثقافة الحرية في المجتمع قياساً علي الجهود التي تبذل لتعميق العكس.
وإذا كنا جادين حقاً في طلب التغيير فلابد أن نبدأ بغرس الثقافة السياسية في الأجيال الجديدة.. من خلال قصور الثقافة ومراكز الشباب والجامعات ومناهج التعليم.. ونقدم نماذج ايجابية عصرية لما يحدث في المجتمعات المتقدمة التي طبقت مفاهيم الحرية والتعددية والانفتاح وتداول السلطة وقبول الآخر فعاشت مستقرة.. وحققت التعايش السلمي الآمن بين طوائف وفئات الشعب المختلفة دينياً وفكرياً وسياسياً وثقافياً واجتماعياً.
والدستور عندنا يتحدث عن الحرية.. والقانون أيضا يتحدث عن الحرية.. لكنهما ـ الدستور والقانون ـ لا يضعان حدوداً لهذه الحرية.. من أين تبدأ وأين تنتهي.. وقد يبدو هذا جيداً للوهلة الأولي لأنه يترك الأبواب والحدود مفتوحة.. لكنه في التطبيق العملي جعل من السهل محاربة الحرية بنصوص الحرية.. ولم يدرك الذين يتلاعبون بالحرية أنهم إذا كانوا اليوم في معسكر الموالاة للسلطة.. فربما يكونون غداً في إطار تداول السلطة في معسكر المعارضة ويصيرون ضحايا.
في حواره مع صحيفة "الشروق" المنشور السبت الماضي قال أستاذنا الكاتب الكبير محمد العزبي وهو يروي تجربة سجنه عام 1966 مع مجموعة من أصدقائه اليساريين فيما عرف وقتها بتنظيم وحدة الشيوعيين: "كنا جميعاً ناصريين.. وكنا نهتف قبل السجن لا حرية لأعداء الشعب بمعني أنه لا مانع لدينا من سجن هؤلاء الأعداء إلي أن فوجئنا أننا أنفسنا داخل هذا السجن.. وكان الوفديون الذين مشوا في جنازة النحاس باشا في العنبر المقابل.. والإخوان بعدهم في عنبر ثالث وعدد من المحامين كانوا ينتقدون الأوضاع وهم في الكويت وحين وصلوا مصر أدخلوهم عنبراً رابعاً.. كان الشعب كله داخل عنابر السجن".
لذلك.. تعلمنا الثقافة السياسية أننا عندما ندافع عن حرية الآخرين فإننا في الواقع ندافع عن حريتنا نحن.. عن حريتنا جميعاً.