الجمهورية
على هاشم
الوزير الموظف.. والوزير السياسي!
ندرة السياسيين.. ظاهرة تعاني منها مصر منذ سنوات عديدة وتظهر تداعياتها بوضوح عندما تتعاظم الأزمات ولا تجد من يحسن التصرف حيالها. في مواقع عديدة.. هذه الندرة طالت الحكومة والبرلمان وكذلك الأحزاب السياسية.. ربما تكون الأسباب واحدة وهي غياب التربية علي السياسة داخل مجتمعنا. وافتقاد المؤسسات التي يمكنها النهوض بهذه المهمة.. مثلما يحدث في كل الدنيا.. حيث نري الأحزاب مفرخة للسياسيين والبرلمانيين أيضًا وكبار المسئولين. فالبرلمان هو قمة الهرم السياسي. حين يمارس الرقابة علي الحكومة أو يحاسبها. أو حين يصدر تشريعات تستوعب احتياجات الجماهير علي أرض الواقع وتلبي حاجات التطور والعصر.
في الدول العريقة ديمقراطيًا يتحلي المشتغلون بالعمل العام أيا كانت نوعيته ودرجته بحس سياسي وثقافة عالية ووعي كبير.. فالوزير منصب سياسي بالأساس وليس مجرد وظيفة بالأقدمية أو حتي بالتخصص » وليس شرطًا أن يتولي مهمة وزارة الدفاع أو الداخلية في أمريكا أو بريطانيا مثلاً واحدى من أبناء المؤسسة العسكرية أو الشرطية.. بل الأهم توفر الحس والرؤية السياسية. والإلمام بمقتضيات المنصب لدي هذا المسئول.. الوزير السياسي يدرك حجم مسئوليته السياسية وحدودها ومقتضياتها.. يعرف كيف ومتي يتخذ القرارات المناسبة. يؤمن بأنه جاء ليخدم مصالح الدولة وليس الحكومة وحدها ومصالح الشعب وليس مصالح شلة المنتفعين.. يتفهم احتياجات الناس. ويعرف للرأي العام وللإعلام والصحافة قدرها وطبيعة مهماتها ووظيفتها فيتواصل معها عن إيمان بأنها تؤدي رسالة تنوير وتوعية للرأي العام بمجريات ما يحدث. وليس مجرد وسيلة للابتزاز أو انتهاك الخصوصيات والنقد والهجوم ومن ثم فلا يتصادم معها أو يضيق بها ذرعًا.. وكذلك فإن البرلماني الناجح هو من يملك رؤية سياسية وقدرة علي الالتحام بالجماهير والتفاعل مع أبناء دائرته وناخبيه وقضايا أمته بشكل عام.. هو من يعارض إذا كانت المعارضة وسيلة إصلاح وتقويم لا بد منها.. ويؤيد إذا كان في التأييد منفعة للصالح العام وتحقيق للوفاق الوطني وتكوين لجبهة داخلية متماسكة تستعصي علي الاختراق الخارجي. وتمتنع علي محاولات التآمر.
البرلماني الحق من يستشعر نبض الناس ويتفهم احتياجاتهم ويسعي لتحقيق مصالحهم ولا يتواني عن خدمة الضعفاء منهم قبل الأقوياء. يدرك حجم الأزمات. ويصارح الجماهير بالحقائق ولا يدغدغ مشاعرهم بوعود لن تتحقق. كإيهام أبناء دائرته مثلًا بقدرته علي تعيينهم في الدولاب الحكومي المكتظ بالبطالة المقنعة. العاجز عن استيعاب مزيد من العمالة الفائضة.. ومن ثم فعليه بإقناع المواطنين خصوصًا الشباب بضرورة الالتحاق بالقطاع الخاص والتزود بالمهارات والخبرات المطلوبة لسوق تسعي للمنافسة. وعليه التواصل مع الإعلام لنشر ثقافة جديدة للعمل تغير مفاهيم قديمة ترسخت عبر أجيال تربت علي مقولة خاطئة مفادها ¢ إن فاتك الميري اتمرغ في ترابه ¢.. وعلي البرلماني الحق إقناع الشباب بثقافة العمل والجودة الإنتاجية والتنافسية والتصدي لظاهرة البطالة بدلاً من القضايا الهشة التي تجري مناقشتها كل يوم.. والبرلماني الحق هو من يقدر دور الصحافة والإعلام لكنه في الوقت نفسه ينبه لخطورة التناول الإعلامي لطائفة من الفضائيات دأبت علي الإساءة لسمعة مصر في الخارج وتشويه صورتها.. ومن ثم فإن الواجب يقتضي الرد علي ما تثيره مثل تلك القنوات بالحوار الموضوعي ومقارعة الرأي بالرأي والحجة بالحجة.. وهكذا ينبغي للحكومة والأحزاب والمجالس الشعبية المزمع انتخابها أن تتحلي بتلك الصفات الواجب توفرها فيمن يتصدي للعمل العام.
لا شك أن غياب السياسة وراء كثير من مصائبنا وأزماتنا. فكثير من قرارات الحكومة إما أنها صائبة لكن جاءت في التوقيت الخطأ كما حدث في قرار تعويم الجنيه الذي تأخر كثيرًا ولم تصاحبه الإجراءات الحمائية المناسبة.. أو تكون القرارات خاطئة مضمونا وتوقيتًا والأمثلة كثيرة علي ذلك وهو ما يجعلنا شديدي الحاجة لإعادة النظر في منصب الوزير وإعلاء الجانب السياسي علي ما سواه عند اختيار الشخصيات المؤهلة لهذا المنصب حتي لا تتكرر المآسي.
علم السياسة يقول إن الوزير السياسي يضع الخطط ويرسم السياسات ويتخذ القرارات ويترك لمساعديه أمر التنفيذ ثم يتابع ويقيم ما تحقق دون أن يغرق في تفاصيل روتينية ابتلعت كثيرًا ممن تصدوا لهذا الموقع عبر سنوات طويلة. الأمر الذي جعلهم في دائرة رد الفعل والاستسلام للتقارير الروتينية للمرءوسين والإغراق في مطالعة الأوراق والابتعاد عن الميدان الحقيقي للمشاكل. الأمر الذي ينتهي بالوزير إلي موظف بيروقراطي يصم أذنيه عما ينشره الإعلام ولا يدري من وظيفته سوي توقيع الأوراق والجزاءات ومطالعة ¢ البوستة ¢ والوقوع في أسر المساعدين والخوف من اتخاذ القرارات الجريئة الصعبة.
هناك وزير نادر الوجود يمتلك أفقًا سياسيًا واسعًا ودراية كاملة بحدود وظيفة وطبيعة وزارته.. تجري السياسة منه مجري الدم في العروق.. وهو نموذج موجود رغم ندرته وهو الأقدر علي النجاح وتغيير الواقع الصعب والسيطرة عليه. إذ يملك بحكم تكوينه العقلي والوجداني وتركيبته السياسية قدرات خاصة تؤهله للتواصل مع المجتمع وإدارة حوارمثمر مقنع سواء علي أرض الواقع أو عبر وسائل التواصل المختلفة. ويمكنه اتخاذ قرارات ناجعة تريح الناس وتضيف إلي حكومته رصيدًا من الشعبية والمساندة الجماهيرية.. والسؤال : كم وزيرًا سياسيًا عرفته مصر في السنوات الأخيرة.. ؟! والجواب : لايتجاوزون أصابع اليدين.. وقد صادفت وعايشت هذين الصنفين من الوزراء.. الوزير الموظف.. والوزير السياسي الذي أراه متحققًا في شخص د. علي مصيلحي وزير التموين الحالي فرغم ما تعرض له من نقد قاسي وهجوم غير مبرر. وتعامل البعض مع تصريحاته وقراراته الأخيرة علي طريقة ¢ ولا تقربوا الصلاة ¢ بانتقائية غريبة حين أراد ضبط منظومة فاسدة تسببت في إهدار كثير من مخصصات الدعم » فقرر الرجل تقليل الحصة المخصصة من الخبز المدعم للكارت الذهبي.. صحيح أن القرار بدا متعجلاً. أراد سد ثغرة ينفذ منها الفساد لكنه لم يوفر بدائل لصرف الخبز لغير الحائزين لبطاقات التموين الذكية. حتي يتم استخراج بطاقات ذكية لهم بديلا للبطاقات الورقية التي تبين أنها باب كبير للتلاعب واختلاس دعم الغلابة يحمّل ميزانية الدولة مليارات الجنيهات سنويًا. يستفيد منها الناهبون لقوت الغلابة.. صحيح أن الوزير مصيلحي اعتذر ورجع عن قراره ليعطي مهلة جديدة لتحويل البطاقات الورقية إلي ذكية خلال 3 أشهر لكن ما يشفع للوزير هو رغبته في الحفاظ علي المال العام وتقليل الهدر ومنع النهب والاستغلال من جانب معدومي الضمير.
عمومًا.. الوزير مصيلحي تصرف بكياسة وبحس سياسي ينم عن أنه فعلاً ¢وزير سياسي¢ لا يري غضاضة في التراجع عن قرار غير مناسب. وزاد علي ذلك أنه اعتذر ليكرس فضيلة سياسية غائبة للأسف في مجتمعنا.
والحق.. أن د. علي مصيلحي وزير سياسي بحكم تكوينه وتاريخه فقد كان برلمانيًا منتخبًا. نجح في كسب أصوات ناخبيه ومؤيديه في دائرته بمحافظة الشرقية. ناهيك عن كفاءته المهنية التي تجلت في تطوير منظومة البريد ووضعها علي طريق النجاح. ثم نجاحه في وزارة التضامن الاجتماعي التي تولاها قبل أحداث يناير.
ما أعرفه عن الوزير مصيلحي أنه يملك رؤية هادفة للتطوير. ويضع لها خططًا وبرامج تكفل لها النجاح. ودائمًا ما يسعي لحل المشكلات سواء في عمله النيابي وبين أبناء دائرته أو في عمله الوزاري. يتلقف ما ينشره الإعلام. ويجيد التفاعل معه ويفسح صدره للنقد الهادف قبل المدح والإشادة. ويتحلي بروح المبادرة والمبادأة في حل المشكلات في أي موقع عمل به» لذلك أري أن ما وُجّه إليه من نقد لاذع قد جانبه الصواب. فليس من اللائق وصفه ب ¢الوزير الفاشل¢ كما ذهب البعض رغم نجاحه في مواقع عديدة.
مبلغ علمي أن د. مصيلحي ينحاز للفقراء ويضعهم دائمًا في صدارة أولوياته منذ كان وزيرًا للتضامن. وكان بوسعه تحاشي الصدام مع مافيا المصالح في وزارة التموين. وأن ينال دعمهم لو آثر الصمت وغض الطرف عما يرعي من فساد وروتين في وزارته. وترك التطوير ومنظومة الكساد والعفن الإداري علي حالها. خصوصًا في قطاع المخابز والمطاحن.. وما أدراك ما المخابز والمطاحن والصوامع التي شهدت كبري قضايا الفساد في السنوات الأخيرة. ناهيك عن مستودعات البوتاجاز.. لكنه قرر اقتحام عش الدبابير لتطهيرها وتوصيل الدعم لمستحقيه وتوفير الفاقد لخزانة الدولة فلقي مقاومة شرسة. وشن أصحاب المصالح ضده حربًا ضروسًا بالشائعات تارة. والتحريض تارة أخري.. لكنه يدرك حجم المعركة وهو مستعد لدفع ضريبة الإصلاح حتي يصل إلي مبتغاه لكننا ننتظر منه مزيدًا من ضبط السوق وتحقيق العدالة الاقتصادية. والإشباع للجماهير خصوصًا المطحونين والغلابة وما أكثرهم.. حتي لا نتركهم فريسة للتداعيات الصعبة لحزمة الإجراءات الاقتصادية الأخيرة أو المحرضين علي الدولة ودفع المواطنين للانفجار.
حماية الفقراء أولوية يعرفها د. مصيلحي ويجب أن يسرع الخطي نحو تحقيقها وكذلك حماية ما بقي من الطبقة الوسطي الآخذة في الانهيار والتآكل بصورة خطيرة.
ما نرجوه أن يكون الحس السياسي معيارًا حاكمًا عند اختيار المسئولين أيًا ما تكن مواقعهم» فذلك كفيل بحل مشكلاتنا المستعصية.. تخريج كوادر سياسية ملهمة فريضة غائبة. تحتاج إلي إعادة بناء مؤسسات ومنظمات سياسية جديدة يمكنها بناء كوادر وتخريج نخبة سياسية جديدة إلي أن تتعافي الأحزاب وتنهض بدورها الطبيعي الذي نراه من حولنا في كل الدنيا.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف