نبيل فكرى
مساء الأمل .. ليتها تعود لتضربني
أتممت الآن. عشرين عاماً بلا أم.. عشرون عاماً محرم علي أن أناديها وأن أنتظرها وأن أجري إليها أو أنظر في ملامحها التي لم تفارقني. مكتفياً بصورة استعيدها صباح مساء.. عشرون عاماً دون حضنها وهمسها وعتابها وضحكتها.. عشرون عاماً أيامها ثقيلة. تزوجت وأنجبت. وأصبحت رجلاً تجاوز الأربعين. لكنني مشتاق لأي شيء منها. حتي لو نهرتني. أو ضربتني.. ليتها تعود لتضربني. ولم تفعلها في حياتها.
منذ أيام. اتصل بي صديقي الأستاذ ميمي القيعي. مراسلنا في الغربية. يذكرني بعيد الأم. ويستحثني أن أكتب عنها. ولا يعلم أنني لا أنساها. ولا يعلم كم هو ثقيل علي أن أناجي طوال عشرين عاماً طيفاً وأمساً وذكريات. ربما هي أكثر حياة من الحاضر.
لا أجيد الكلام عن أمي.. ربما أجيد البكاء أكثر. ففي ظني ويقيني لا يليق بها الكلام.. يليق بها أكثر ذاك السواد الذي اتشحت به تلك النقطة في أعماق القلب. كانت ولازالت تسكنها. فلما رحلت انطفأت هذه النقطة من القلب. وغادرني الربيع.
يوم ماتت أمي. لم أتصور أنه سيأتي اليوم الذي أضحك فيه.. لم أكن شبعت منها بالقدر الذي يروي ظمأي.. كنت أكبر أبنائها. وأول وآخر من غادروها في رحلة الاغتراب والسفر للدراسة بالقاهرة ثم العمل. وحين كنت أعود لقريتي نهاية كل أسبوع. كانت تغدق علي في كل شيء.. مشاعر وضحكات ولقيمات تقتطعها من لقمتها لآكلها أنا. وكم كنا جبارين ونحن صغار.. ربما لم نكن نظن أن النهاية ستأتي.. كان أبشع كوابيسي أن أري أمي قد ماتت. وكان ذلك يحدث كثيراً.. ربما لأعتاد.. لكنتي لم أعتد. ولم تغادرني لليوم. وفي مرات كثيرة. يغالبني البكاء شوقاً وحنيناً فوق طاقتي واحتمالي.
في بدايات السفر. وقبل أن ترحل أمي. كان هاجسي الخوف من أن ترحل.. كانت فرحة أدخرها لليالي الطويلة.. كانت الحل لكل معضلة.. فقط إن رأيتها انتهي كل شيء.. ألجأ إليها مذعوراً أو هرباً من أبي. بسبب ذنب اقترفته. فتتكفل هي بالمعضلات. وربما تتحمل عني الضرب.
في بداية مشواري الدراسي. تعرضت لحادث. وأجريت عملية جراحية بأحد مستشفيات القاهرة.. كان لافتاً أنها لم تأت أول الأمر. لكنها في الحقيقة لم تكن تقوي علي مواجهة مشهد وليدها في سرير المرض والجراحة. وحين استجمعت قواها وجاءتني. أذكر أنها ناجت ربها أن تتحمل نيابة عني كل ما أعاني.
يا لهف نفسي علي أمي.. كم هو مسكين ذاك الذي فقد أمه.. ذاك الذي يتواري كمداً من ركن مظلم إلي ركن. يفيق كثيراً علي حقيقة أنها رحلت.. والله مرات. ورغم الأعوام العشرين أظنها لازالت حية. ومرات تأتيني في منامي. لتفاجئني أن ما بها كان مرضاً عضالاً. وأنها عادت للحياة. شريطة ألا أخبر أحداً أنها عادت من موتها. وأقبل أن تبقي ولو صورة.. ولو رمزاً.. ولو قالوا إنها هنا لكنها في تلك الغرفة المغلقة لن تخرج منها.. أقبل حتي لو قالوا هنا بعض أنفاسها.. أقبل لو قالوا: هذا القماش البادي من خلف حجاب. هو ملاءة سرير تجلس عليه أمك.
ألا أيها الهانؤون بأمهاتهم: آه لو علمتم كم نحسدكم علي يديها وقدميها.. آه لو علمتم كم نحسدكم علي كنز نستبدله بكل ما لدينا.. آه لو علمتم كم هم تعساء من يعيشون بلا أم..هاتوا لي أم وخذوني خادماً لديكم.. هاتوا لي أمي اختبئ في "حجرها". وليكن ما يكون.
أمي: كل يوم وأنت حبيبتي.. كل لحظة وأنت في قلبي وخاطري.. كل ثانية وأنا أذكرك.. ادعو لي من عندك.. أعلم كم كنت تقية نقية.. قولي: يارب إن لي ابناً تركته هناك.. ليكن إلي جانبي حين يأتي.
ہہ ما قبل الصباح :
ـ لا تنسونا في عيد الأم.. نحن "المتسولون".. حبنا وأحلي ما فينا.. تحت التراب.