دائما توقعنا الأرقام الاقتصادية في "حيص بيص" بسبب تناقضاتها الفجة.. هناك أرقام تدعوك للتفاؤل.. لكن هناك أرقام تصدر في الوقت ذاته تدعوك إلي الإحباط.. وقد تكون هذه الأرقام صحيحة وتكون تلك أيضا صحيحة.. ولذلك من الخطأ أن نعتبر الأرقام وحدها عنوان الحقيقة في تقييم الحالة الاقتصادية.
في الأسبوع الماضي طالعنا الأرقام التي حملها تقرير صادر عن بنك "بي. إن. بي. باريبا" والتي تقول إن الصادرات المصرية زادت بمقدار ملياري دولار عن العام الماضي بنسبة زيادة 25%.. بينما انخفضت الواردات بنسبة 25% أيضا بقيمة 7 مليارات دولار.
وارتفع اجمالي تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر خلال النصف الثاني من عام 2016 من 3.1 مليار دولار إلي 7.4 مليار دولار بزيادة قدرها 139% تقريبا.. وحقق ميزان المدفوعات فائضا بلغ 7 مليارات دولار مقابل عجز كلي خلال الأشهر الستة السابقة بلغ 3.4 مليار دولار.. وحقق الميزان التجاري فائضا بنسبة 44% عن العام الماضي.. وزادت تحويلات المصريين بالخارج بنسبة 23% خلال يناير الماضي مقارنة بشهر يناير 2016.
وكان من الطبيعي أن تنعكس مؤشرات هذه الأرقام المتفائلة أول ما تنعكس علي سعر الدولار فينخفض حتي يصل إلي ما يسمي بـ "السعر العادل" الذي يتراوح بين 12 و14 جنيها وبالتالي تنخفض الأسعار وتخف وطأة الأزمة المستحكمة حاليا.. لكن هذا للأسف لم يحدث.. فقد اهتز الدولار شيئا ما حتي وصل إلي 15.5 جنيه - ثم سرعان ما عاود الصعود إلي 18 جنيها حاليا.. وهو ما يدفعنا إلي النظر والتفكير في مؤشرات ودلالات أرقام أخري مزعجة تناقض التفاؤل.
هذه الأرقام المزعجة أعلنها رسميا الجهاز المركزي للتعبئة والاحصاء في الأسبوع الماضي ذاته وتقول إن معدل التضخم السنوي الاجمالي في مصر صعد خلال الشهر الماضي - فبراير - إلي 31.7% مقابل 29.6% في يناير السابق له.. وهو أعلي صعود يسجله معدل التضخم في مصر منذ 31 عاما.
وارتفعت أسعار الاطعمة والمشروبات في فبراير الماضي بنسبة 41.7% مقارنة بنفس الفترة من العام الماضي.. وصعدت أسعار اللحوم والدواجن بنحو 34.6%.. وارتفعت أسعار الحبوب والخبز بنحو 58.7% وصعود الأرز بنسبة 72.4% وأسعار الاسماك والمأكولات البحرية بنحو 40.2%.. وقفزت أسعار الزيوت والدهون بنحو 66.7%.. وزادت أسعار الفاكهة بنحو 36.1% والخضراوات بنحو 34.1%.. وصعدت أسعار السكر والاغذية السكرية بنحو 59.1%.
وعلي الرغم من بدء موسم تخفيضات أسعار الملابس خلال الشهر الماضي إلا أن أسعار الملابس والأحذية ارتفعت بنحو 23.6% خلال الشهر الماضي.
وإلي جانب هذه الأرقام هناك أرقام أخري مخيفة نقلتها "أخبار اليوم" السبت الماضي عن ماجد نادي المتحدث الاعلامي باسم النقابة العامة لبدالي التموين ذكر فيها ان هناك نقصا في زيت التموين بمعدل 20% وعجزا في الأرز بمعدل 100%.. وأن المحافظات تشهد عجزا في السلع التموينية وصل إلي 50%.
ماذا يعني هذا التناقض في الأرقام وكيف نفهمه؟!
لا شك أن التحسن في المؤشرات الاقتصادية الكلية وزيادة الاستثمار والتصدير وميزان المدفوعات والاحتياطي النقدي يمثل ظاهرة ايجابية ولازمة لتحقيق التنمية الاقتصادية.. لكن هذا التحسن ليس كافيا بذاته.. بل يجب ان تصاحبه رؤية وتوجه سياسي اجتماعي يعمل علي رفع مستوي معيشة الطبقة المتوسطة والدنيا - وتوزيع الدخول والثروات بشكل متوازن.. وتحسين ظروف العمل وتوجيه الموارد نحو مقاومة الممارسات الاحتكارية.. وتوفير الفرص المتكافئة للمواطنين للعلم والعمل والمنافسة.. والتدخل لحماية الطبقات الأكثر فقرا.
هذه الآليات ضرورية جدا حتي تنعكس الأرقام الايجابية المتفائلة علي حياة الناس.. وبالتالي يشعر الشعب بأنه شريك في جني ثمار الاصلاح الاقتصادي الذي مازال يسدد فاتورته ويتحمل - وحده - أسوأ تبعاته.
الأرقام المجردة لا تعني شيئا.. ويمكن أن تعطي مؤشرات خادعة.. لذلك لابد أن نحتكم إلي الواقع.. والواقع يدعونا إلي إعادة توزيع الثروة وتضييق الفجوة بين الثراء والفقر.. من أجل تحقيق السلم الاجتماعي.