المصريون
جمال سلطان
البرلمان إذ يغتصب سلطة القضاء ويلغي دوره
حافظ الدستور المصري على مبدأ الفصل بين السلطات في أكثر من مادة من مواده ، كما أكد مرارا على استقلال القضاء ، وذلك لمنع تغول أي سلطة على الأخرى ، وخاصة سلطة القضاء التي تمثل عماد الدولة بما هي دولة ، ولذلك يكون الأمر خطيرا أن يتصرف البعض في مجلس النواب باستهتار مهدر لتلك القواعد الدستورية الواضحة ، ويقرر إهدار سلطة القضاء وإهانته في نفس الوقت باغتصاب حقوقه ومجال عمله وسيادته ، ثم يكرر هذا الاغتصاب أكثر من مرة في أكثر من واقعة دون أن يطرف لهم جفن ، ودون أن يثير ذلك اهتمام القيادة السياسية باعتبار أن ما يحدث يهين الدولة نفسها ويضعف مصداقيتها وهيبتها . هناك خصومة سياسية بين المهندس نجيب ساويرس رجل الأعمال المعروف ومؤسس حزب المصريين الأحرار ، أكبر الأحزاب المصرية حاليا حسب الحصة البرلمانية ، وبين علاء عابد عضو البرلمان ورئيس الكتلة البرلمانية لحزب المصريين الأحرار أيضا ، على خلفية "الملعوب" القديم الذي تم إحياؤه من قبل جهات أمنية نافذة دأبت على تنفيذ "انقلابات" مصطنعة داخل الأحزاب غير المرضي عن قياداتها ، لكي يتسنى لهم الإطاحة بالقيادات التي لا تدخل في "الطوع" أو التي تحافظ على استقلالية موقفها السياسي ، وقد صدرت عن علاء عابد في معرض هجومه الإعلامي على ساويرس عبارات جارحة وتشير إلى اتهام ساويرس تلميحا أو تصريحا بأمور تشينه وتضر بسمعته ، فكان من الطبيعي أن يلجأ نجيب ساويرس إلى القضاء لإنصافه ، وطلب التحقيق في ما اعتبره "سبا وقذفا" في حقه من قبل النائب المذكور ، غير أنه لكي يتسنى للقضاء سماع أقوال علاء عابد يحتاج الأمر إلى تصريح من البرلمان بذلك من خلال رفع مؤقت للحصانة عن العضو ، لكن الذي حدث أن مجلس النواب رفض الطلب ، وقرر النظر بنفسه في الاتهام والتحقيق فيه ثم إصدار حكم ببراءة علاء عابد من تهمة سب نجيب ساويرس وقذفه ، وحكم بأن بلاغ ساويرس هو بلاغ كيدي ولا يستحق التحقيق ، هكذا ببساطة !. هيئة مكتب البرلمان قررت حفظ طلب رفع الحصانة لأنها قررت من تلقاء نفسها "وجود كيدية في طلب ساويرس، وانتفاء تهمة السب والقذف لعدم توافر شروطها"، مؤكدة أن ما تناوله ساويرس في طلبه ليس إلا رأي للنائب عابد، لا تتوافر فيه شروط تهمة السب والقذف ، تذكر ، هذا ليس كلام النيابة العامة أو القضاء ، ولكنه حكم بعض أعضاء البرلمان والذي فرضوه على القضاء وعلى أطراف الخصومة . السؤال هنا هو ، ما هي وظيفة القضاء إذن ، وما قيمة وجوده ، إذا كان بعض أعضاء البرلمان هم الذين يحققون في الاتهامات ، وهم الذين يحفظون التحقيق أو يرفعونه للحكم ، وهم الذين يعتلون منصة القضاء وهم الذين يحددون ما هو جريمة وما هو ليس بجريمة ، وما هو سب وقذف قانونا وما هو كيدي في الاتهام ، ما قيمة القضاء إذن ، وما قيمة النص في الدستور على استقلاله وعلى سيادته ، بعد أن أصبح "ملطشة" برلمانية متكررة ، لأن هذا الذي حدث تكرر من قبل بنفس الصيغة ، عندما وقعت خصومة بين الدكتور حازم عبد العظيم الناشط السياسي المعروف وبين أحد أعضاء البرلمان ، وتقدم ببلاغ للنيابة يتهم العضو بسبه وقذفه ، فقرر البرلمان رفض رفع الحصانة وأصدر حكما بأن ما ورد من العضو هو كلام عادي وليس سبا وقذفا ، وأن الشكوى كيدية ، وما زال الملف معلقا في القضاء حتى الآن ، مغلولة يده عن النظر فيه ، لأن البرلمان همشه واعتلى منصته وأصدر حكمه في القضية . ما يحدث في مصر الآن يحول البلاد عمليا إلى "جمهورية موز" ، فوضى دستورية عارمة ، وبعثرة أي قواعد تحمي الدولة وصورتها أمام الشعب وأمام العالم ، على طريقة : هي كده وإذا كان عاجبك وأعلى ما في خيلك اركبه ، المؤسسات يستبيح بعضها بعضا ، ويغتصب بعضها سلطات بعض ، ولا يوجد مرجعية واضحة للفرز أو الفصل بين السلطات ، فالدستور نفسه ـ أبو القوانين ـ لم يعد له وجود عمليا هنا ، والسياسة هي التي تدير كل شيء ، ولائحة من معنا ومن ضدنا هي التي تحدد القرارات والأحكام والتصرفات الرسمية في كافة قطاعات الدولة ، هذه كارثة حقيقية ستكون عواقبها وخيمة ، على السياسة والاقتصاد والوطن ككل .
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف