أحمد سعيد طنطاوى
النبيشة وأكياس الزبالة الطائرة
كانت جدتي تقول لى "لم النعمة.. النعمة تلمك" وهي جملة منتشرة فى الفلاحين والأرياف تدعو للحفاظ على ما وهبنا الله لنا وأعطانا إياه.. وتقال هذه الجملة خاصة على الموائد حين يحضر الطعام.
وأعرف أشخاصاً كانوا يقسمون رغيف الخبز إلى أربعة أجزاء ليس بخلاً ولكن لكى يلموا النعمة ولا يسرفوا فى الأكل، ولا يجعلون للأكل بقايا تُلقى فى القمامة.
مؤخرا افتتحت محافظة القاهرة منفذين لشراء المخلفات الصلبة فى مصر الجديدة والمعروفة بتجربة "أكشاك بيع القمامة".. هذا أمر جديد يجعلنا نلم النعمة التى تنتشر فى بيوتنا، ثم نرتبها ونفصلها لكي نقوم ببيعها للمحافظة.. الزجاج فى ناحية والبلاستيك فى ناحية والألومنيوم المتمثل فى علب "الكانز" فى ناحية أخرى.. كل هذه النعم كانت تُلقى فى سلة المهملات ولا نستفيد منها.
وبدلا من إلقاء القارورات الزجاجية الفارغة أو المهشمة فى القمامة التى فى أغلب الوقت تجرح يد العمال ساعة الفرز، قررت المحافظة أن تريح يدي العامل وتملأ جيوبنا من بيع القمامة.
أتفهم ما قاله أحد جامعي القمامة بحى النزهة لبوابة الأهرام ويُدعى عبدربه حسانين: "إذا كان المحافظ مفكر أنه كده هايقضى على الفريزة والشوارع هاتنضف يبقى بيحلم".. أتفهم كلامه لأنه يعتقد أن هذه الأكشاك ستقضى على مهنته فى جمع القمامة.. ولكن؟!
ما العيب أن يحلم المحافظ؟! ألا نحلم جميعاً بقاهرة نظيفة جميلة مشرقة.. تُغسل شوارعها كل يوم كما كان يحدث فى الماضي فى عهد الملكية وحتي أيام عبدالعزير حجازى محاظ القاهرة فى الستينات، ما العيب أن يصير الحلم حقيقة.. ونلم فتات قمامتنا ونبيعه لكى نتقاضي عليه أموالاً تنفعنا فى هذه الأيام.
استوقفتني كلمة "الفريزة" فى جملة عبدربه.. هي نفسها الكلمة التى قالها شحاتة المقدس نقيب الزبالين، ولكن بطريقة أخري حيث أطلق على الفريزة لقبا مختلفاً.. وقال "النبيشة"، وكلاهما صحيح المعني فى النهاية.. فالشخص الذى يفرز القمامة ليخرج منها ما يمكن إعادة تدويره، هو نفسه الشخص الذي ينبش فيها ليخرج منها أفضلها.. لكن الفرق فى المكان أحدهما يفرز فى مكان تجميع القمامة والآخر ينبش فى الشارع.
المقدس يري أن التجربة سوف تفشل "فالشعب المصري لا يحب الوقوف فى الطوابير.. فقد مل منها، وسيمل من انتظاره فى طابور لكى يسلم قمامته لأحد الأكشاك لشرائها".. لكنني أختلف معه فنفس الشعب الذي يهتم بنصائح جدته والحفاظ على نعمة أنعمها الله عليه، مع خبرة كبيرة في الوقوف بالطوابير، تجعله قادراً على الاستمرار في التجربة.
الحكمة تقول: "حتي في أكوام الزبالة تنمو الزهور!..
فالتجربة مهمة وجميلة.. وربما تحمي سكان العمارة ذات الشقق الكثيرة من الكيس الذى يُلقى ليلاً أو حتي نهاراً على رأس الأولاد أو الزوجات أو الأقارب الذين يأتون لزيارتنا.. يُلقون الكيس من النوافذ على اعتبار أنه لا أحداً سيهتدي إلى صاحبه.
أغلب الظن أن أصحاب الكيس الطائر سيفرزونه بأنفسهم وينبشون فيه ليجمعوا منه بضعة جنيهات.. فلا تستغرب من اختفاء ظاهرة الكيس الطائر.. ولعلهم يفعلون.