جلال الشايب
كرامة البرلمان وحرية الرأي والتعبير
وأنا في الخامسة عشرة من عمري، أهداني أحد أعمامي كتابا كبيرا بعنوان “الحيوانات التى تحكمنا”CES ANIMAUX QUI NOUS GOUVERNENT بعد عودته من رحلة إلى فرنسا، وهو كتاب ملون لثلاثة رسامين كاريكاتير فرنسيين كبار، ويضم صورا بورتريه مرسومة كاريكاتير لثماني عشرة شخصية سياسية فرنسية شهيرة، منها رئيس الجمهورية – فى ذلك الوقت – فرانسوا ميتران، ورئيس الوزراء لوران فابيوس، ورؤساء فرنسا السابقون: فاليري جيسكار ديستان، وجورج بومبيدو، وشارل ديجول، وسياسيون فرنسيون معاصرون آخرون.
الجديد في هذا الكتاب أنه عرض مقارنات مدهشة بين هذه الشخصيات السياسية البارزة وبين الحيوانات التي تشبهها من ناحية الشكل والملامح ومن ناحية الطباع والسلوك، فمثلا الزعيم الفرنسي شارل ديجول شبهه أحد الفنانين بحيوان الفيل، من ناحية ضخامة الأنف لديجول والخرطوم للفيل، ومن ناحية حجم وثقل ديجول في عالم السياسة والفيل في عالم الغابة، والرئيس فرانسوا ميتران شبهه الفنان الثاني بالديك الرومي، وعمدة باريس – في ذلك الوقت – جاك شيراك شبهه الفنان الثالث بسمكة القرش، وكان هناك أيضا الغراب والكلب والقرد والثور والخنزير والأخطبوط، ووضع الفنانون الثلاثة لكل شخصية ثلاث مراحل للتحول: الأولى للحيوان الأصلي، والثانية لمرحلة وسط بين الحيوان والشخصية، والثالثة للشخصية السياسية نفسها.
نشر هذا الكتاب في فترة حكم الرئيس الفرنسى الأسبق فرانسوا ميتران (1981- 1995) منذ حوالى ثلاثين عاما، ولم يحتج أنصار الرئيس ميتران آنذاك على ظهور الكتاب أو طالبوا بمنعه ومصادرته وإغلاق دار النشر وتشريد موظفيها ومحاكمة الفنانين الذين اشتركوا فيه وسجنهم، بحجة الحفاظ على “كرامة الرئيس” وإهانة الكتاب لرموز الوطن، بل على العكس نال الكتاب عدة جوائز من الدولة نفسها، وطبع أكثر من طبعة وحقق مبيعات هائلة وكان على رأس قائمة الكتب الأكثر مبيعا في فرنسا لفترة طويلة، وذلك لأنه في فرنسا، يدخل في حرية الرأي والتعبير حق النقد، بما في ذلك نقد رئيس الدولة، ومن سبل النقد السخرية والتهكم.
وهناك قول مأثور في عالم السياسة يقول: “لو لم تستطع تحمل الحرارة، فعليك أن تخرج من المطبخ”، فما دام رئيس الدولة أو رئيس الحكومة أو رئيس البرلمان أو أي شخص يمارس السياسة قد ارتضى أن يعمل في الشأن العام، الذي هو المطبخ السياسي، فعليه أن يتحمل النقد أو يرحل.
هذا في فرنسا والدول الديمقراطية، أما في مصر فحدث أن انتقد الكاتب الصحفي إبراهيم عيسى البرلمان في إحدى مقالاته بصحيفة “المقال”، وتهكم عليه ووصفه بأنه “مجلس كارتوني”، فما كان لرئيس البرلمان إلا وتقدم ببلاغ ضده إلى النائب العام، والنائب العام أحال البلاغ على الفور إلى النيابة العامة للتحقيق في القضية، وجرى التحقيق مع الكاتب المتهم طوال ست ساعات، ثم أطلق سراحه بعد دفع كفالة قيمتها عشرة آلاف جنيه.
لقد اعتبر رئيس البرلمان أن كلمة “كارتوني” إهانة للبرلمان وغضب غضبا شديدا لكرامة البرلمان، في حين أنه لم يغضب لكرامة البرلمان حينما تجاهله رئيس الدولة في العديد من القضايا والملفات المهمة التي تخص الشأن الداخلي والعلاقات الخارجية، ولم يغضب لكرامة البرلمان حينما لم يُعرض عليه واحد من أكبر القروض التي حصلت عليها مصر في تاريخها، وهو قرض الاثنى عشر مليار دولار من صندوق النقد الدولى، ولم يغضب لكرامة البرلمان حينما جرى تجاهله في مناقشة المشروعات القومية العملاقة التي تنفذها الدولة، وعلى رأسها مشروع العاصمة الإدارية الجديدة، على الرغم مما يترتب عليه من التزامات ضخمة على الخزانة العامة ومساهمة بأصول ملك الدولة، ولم يغضب لكرامة البرلمان حينما لم تسلمه الحكومة كشف حساب عن مشروع قناة السويس الجديدة الذي أضاف إلى الدين الداخلي أربعة وستين مليار جنيه، ولم يغضب لكرامة البرلمان حينما لم يعد له دور يذكر في الرقابة على السلطة التنفيذية (الحكومة) التي هي إحدى وظائفه الأساسية، حتى كاد أن يصبح ممثلا للحكومة وليس ممثلا للشعب.
الواقع أن البرلمان حين عطل وظيفته في مراقبة الحكومة، فإنه أراد أن يمنع أيضا الكُتاب وأصحاب الرأي عن القيام بدورهم في مراقبة الحكومة وتقويم مسارها ومحاسبتها وكشف أخطائها بصفة يومية أمام الرأي العام، وبدلا من أن يكون منبرا لحرية الرأي والتعبير، فإن البرلمان لم يكتف بمصادرة تلك الحرية، لكنه أراد أيضا إرهاب الكُتاب وأصحاب الرأي وإسكاتهم، لكي لا يوجهوا أي نقد لأداء الحكومة أو البرلمان.
من ناحية أخرى، إن حرية الرأي والتعبير هي أول حق من حقوق الإنسان الذي لايتميز عن غيره من الكائنات الحية إلا بالعقل، فإذا كان العقل هو الامتياز الوحيد الذي يكون به الإنسان إنسانا، فحرية الرأي والتعبير حق طبيعي يتمثل به الإنسان نفسه ويعي وجوده ويشخص إنسانيته، والرأي هو فكرة في مرتبة أدنى من الحقيقة، وبالتالي فصاحب الرأي لا يعبر بالضرورة عن حقيقة، لكن عن وجهة نظر، ومن هذه الزاوية يصبح التعبير حقا لجميع الآراء بلا تمييز، بل إن القوانين التي تحمي حرية الرأي والتعبير قد جاءت بالأساس لتحمي أصحاب الآراء التي يراها الناس خاطئة أو غريبة، وقد نادي الفيلسوف الإنجليزي جون ستيوارت ميل (1806 – 1873) بحرية التعبير عن الرأي مهما كان هذا الرأي شاذا أو غير أخلاقي في نظر البعض، حيث قال: “إذا كان كل البشر يمتلكون رأيا واحدا، وكان هناك شخص واحد فقط يملك رأيا مخالفا، فإن إسكات هذا الشخص الوحيد لا يختلف عن قيام هذا الشخص الوحيد بإسكات كل بني البشر إذا توفرت له القوة”.
والمجتمعات الديمقرطية تسعى لتضييق الفجوة بين ما يعتنق الإنسان من آراء، وبين ما هو مسموح له بإذاعته في العلن وعلى الملأ، لأنه إذا اتسعت المسافة بين ما يؤمن به الإنسان في قرارة نفسه وبين ما يستطيع التعبير عنه في العلن، يصبح المجتمع في أزمة تهدد استقراره، فالمجتمعات التي تدعم حرية الرأي والتعبير ليست فقط أكثر حرية، لكنها أيضا أكثر استقرارا.
في منتصف ثمانينات القرن الثامن عشر رفع السفير الفرنسي لدى إنجلترا تقريرا سريا إلى حكومته، توقع الرجل أن إنجلترا على أعتاب ثورة جديدة تماثل تلك التي شهدتها البلاد قبل قرن من الزمان (الثورة المجيدة التي أطاحت بالملك جيمس الثانى فى عام 1688)، كتب السفير الفرنسي أن الصحف الإنجليزية تفيض بالمقالات والرسوم الساخرة التي تتناول الملك والحكومة بالنقد والتجريح، وقال إن وضعا كهذا لا يمكن أن يستمر، وإن انقلابا في نظام الحكم على وشك الحدوث، واليوم نعرف أن الثورة لم تقم في إنجلترا، بل في البلد الذي جاء منه السفير: فرنسا، حدث ذلك بعد سنوات قليلة من كتابة هذا التقرير، حيث اندلعت الثورة الفرنسية في سنة 1789، ونعرف أيضا أن فرنسا، في عهد الملك لويس السادس عشر والعهود السابقة عليه، لم تكن تسمح بهذه الحريات التي كانت تتيحها إنجلترا، بل كانت تضع الملك والحكومة في مقام يعلو على أى سخرية أو نقد، حتى أن الملك لويس الرابع عشر كان يسمى الملك الشمس، وكان يقول عن نفسه: “أنا الدولة والدولة أنا”، في المقابل، كانت إنجلترا تتمتع بتقليد ديمقراطي راقي، ترسخ منذ الثورة المجيدة، يتيح انتقاد الملك والحكومة ومن يتولون المناصب العامة.
باختصار، إن حرية الرأي والتعبير عنصر رئيسي لسلام المجتمع واستقراره، فالمجتمع المستقر هو ذلك الذى تزدهر فيه تلك الحريات وليس العكس، ونحن ندافع عن حقنا في الرأي والتعبير، لأننا لانستطيع بدون هذا الحق أن نمارس حياتنا كبشر نعيش في جماعات، لانستطيع بدونه أن نجتمع، أو نتفاهم، أو نتوافق، أو نختار، أو نتبادل الفكر، أو نكشف عن الخطأ، أو نصححه، أو نستفيد من تجارب الماضي، أو نرسم صورة المستقبل، إن حرية الرأي والتعبير شرط للحرية لايكون الإنسان بدونه حرا، ولا يكون بدونه إنسانا.