عند قطاعات عديدة داخل تنظيم الإخوان المسلمين، الآن، قناعات راسخة بأن المصالحة مع نظام الرئيس عبد الفتاح السيسي قادمة لامحالة، وأن المسألة تتعلق فقط بشروط هذه المصالحة والتوقيت المناسب لإتمامها، وهذا بالضبط ما أعلنه صراحة الدكتور محمد الحديدي، القيادي الشاب بالتنظيم، وصهر خيرت الشاطر، رجل الجماعة القوي، في حواره مع إحدى القنوات المحسوبة على الإخوان بتركيا منذ عدة أيام.
الحديدي، أطلق – بوضوح لا لبس فيه – مبادرة للمصالحة مع النظام، يتم بمقتضاها الإفراج عن 50 ألف معتقل – بحسب تقديره – من الإخوان والمتعاطفين معهم، وإطلاق سراح المحكوم عليهم من كبار قيادات الجماعة، وتفرغ التنظيم للعمل الدعوي والابتعاد عن السياسة، في مقابل اعتراف الإخوان بشرعية الرئيس عبد الفتاح السيسى، كما أنه – بحسب قوله – يستهدف أساسا من وراء مبادرته تخفيف الآلام الإنسانية الرهيبة التي يعاني منها المعتقلون وأهاليهم، ووضع حد لحالة الاستقطاب في المجتمع، وتهيئة المناخ لوقف نزيف الدم في سيناء بما فيها دماء جنود الجيش والشرطة.
قد يقول البعض إن هذا العرض الإخواني السخي جاء بسبب الأزمات العنيفة التي تعصف بالتنظيم، والتي يمكن حصرها فيما يلي:
**العلاقات الدافئة التي تربط بين الإدارة الأمريكية الجمهورية مع الرئيس السيسي، وتوجهات الرئيس دونالد ترامب اليمينية، التي أكد من خلالها عدم ممارسته أية ضغوط على حلفاء بلاده في ملف الديمقراطية والحريات السياسية، وإعلانه الحرب على تيارات الإسلام السياسي، بل وعزمه وضع الإخوان المسلمين على قائمة التنظيمات الإرهابية، وهو الأمر الذى سيكون له صداه في أوروبا، مع التوقعات بفوز الأحزاب اليمينية الشعبوية في الانتخابات المقبلة في عدد من دول القارة العجوز.
** مخاوف من تراجع نسبي للتأييد التركي لتنظيم الإخوان، خاصة مع تردد أنباء عن تململ تركيا من انخفاض التاثير السياسي للإخوان داخل مصر، وهو ما يمكن الاستشهاد عليه بحوار أجراه مستشار رئيس الوزراء التركي عمر قورقماز، مع قناة “مكملين” العام الماضي، حيث قال إن “تأثير المذيع محمد ناصر، أكبر من تاثير الإخوان في الوقت الراهن”!
** أي مصالحة مصرية – سعوديةقد تعيد من جديد العداء الخليجي للجماعة، خاصة إذا نجحت مساعي الرئيس السيسي في التنازل عن جزيرتي تيران وصنافير للسعودية، وعادت المياه إلى مجاريها بين القاهرة والرياض.
**تراجع النفوذ السياسي للإخوان داخل الشارع في مصر، وزيادة الخلافات بين تيارات الشباب وقيادات الحرس القديم للجماعة، والتي خرجت تفاصيلها للصحف، وهو ما يزيد من نزيف الجماعة السياسي والمالي أيضا، خاصة بعد تلقي إمبراطوريتها الاقتصادية ضربات متتالية عقب عزل الرئيس محمد مرسي.
رغم كل ذلك، فإن نظام الرئيس عبد الفتاح السيسي، يواجه أزمات حادة أيضا، منها ما يتعلق بالتدهور المستمر في الملف الإقتصادي، وتفاقم الغضب الشعبي من الانهيار المتتالي في مستوى المعيشة، وعزم الحكومة رفع أسعار الوقود وفواتير الكهرباء والمياه مرة أخرى في يوليو المقبل، مع شلل مزمن للحياة السياسية وغلق المجال العام وتغليب العقلية الأمنية، مع استزاف الجيش في الحرب في سيناء، وهو مناخ تزداد فيه التوقعات باندلاع احتجاجات شعبية قد تأخذ طابعا فوضويا، لا أحد يحتمل تداعياتها حاليا في مصر.
في مثل هذه الظروف، قد تجد السلطة في مصر نفسها مضطرة إلى تجفيف بعض منابع الاحتقان التي تحاصرها من كل جانب، وقد تجد في التعاطي الإيجابى مع المبادرات الداعية لفتح أبواب المصالحة مع التيارت المستعدة لهذه المصالحة داخل التنظيم فرصة لالتقاط الأنفاس وتهدئة الأوضاع السياسية والاجتماعية قبل أن تخرج عن سيطرتها، خاصة أن هناك قواعد شعبية إخوانية مستعدة أيضا لتجاوز الملفات الساخنة وعلى رأسها فض رابعة، والتعامل الأمني الفظ مع كوادر الجماعة، بل وإسقاط مطالبهم السابقة بعودة مرسي للرئاسة، مقابل الإفراج عن معتقليهم داخل السجون، وعودة ذويهم من الخارج.
من الممكن أن تواجه خطط المصالحة ممانعة من صقور الجماعة، أو رفض من قوى تحيط بالنظام وتستفيد من الأوضاع الراهنة أو حتى تخشى تداعيات هذه المصالحة، إلا أن الاختيار المفضل للسلطة هو إرجاء اتخاذ أي خطوة للمصالحة مع الإخوان، بانتظار أن تنجح في مد بعض الجسور مع القوى الليبرالية أو اليسارية أو المنظمات الشعبية التي تحتاج تأييدها، أو على الأقل مشاركتها بإيجابية في الانتخابات الرئاسية المقرر عقدها العام المقبل، والتي ستكون علامة فارقة في المشهد السياسي المصري، بسيناريوهات إدارتها وإخراجها للرأى العام، وقوة شخصيات المرشحين فيها، وقبل ذلك بمدى نزاهتها وحيادية أجهزة الدولة فيها، لتعطيها الشرعية أو تنزعها عنها.
أيا كان الأمر، لن تتمكن السلطة في مصر من الاستمرار في الرهان على ورقة “إرهاب الإخوان” لكي توقف الاحتجاجات الشعبية على انهيار مستوى المعيشة، وعلى التآكل المستمر في مساحات الحريات العامة بدون بناء نظام ديمقراطي حقيقي ينفتح على كل التيارات، ويضمن حقوقا وواجبات متساوية لجميع القوى والاتجاهات، وهو الدرس الذي تعلمه مبارك ثم الإخوان من بعده ولكن بعد فوات الأوان.