ليس من طبعنا ان يبدأ المسئول الجديد من حيث انتهي من سبقه في المنصب.. أو يبني علي الأساس الذي وضعه المسئولون السابقون.. أو يستكمل تنفيذ السياسات والاستراتيجيات المحددة حتي يصل إلي النتائج المرجوة ويحقق الأهداف الموضوعة طبقا لجدول زمني.
كل مسئول يتولي منصبا يبدأ دائما من الصفر.. بل من تحت الصفر.. فيصرح بأن الوضع في مؤسسته - أو منشأته - صعب ويحتاج لحلول جذرية وغير تقليدية.. وانه فوجئ بحجم التحديات والأزمات والفساد.. وهو اتهام مباشر لسابقيه بالتقصير.. وانه هو الذي سيحمل لواء الاصلاح والتجديد.. حتي ولو كان قبل المنصب مشاركا في الإدارة وفي صنع القرار.
ليس من طبعنا أن يكمل بعضنا مشوار السابقين.. وأن نودعهم بالشكر والتقدير لما قدموا ونعذرهم فيما قصروا.. ولذلك يظل أداء المسئول مجرد تجربة ذاتية.. تبدأ معه وتنتهي معه.. ولا تتوافر لدينا خبرات متراكمة ومشروعات مكتملة ومستمرة.. لأنه لا أحد يعترف لمن سبقه بالفضل.. إلا من رحم ربي.
ثقافتنا ان يظل المسئول ينفخ في انجازاته وقدراته طالما هو في موقع المسئولية.. ويروج كل يوم لأفكاره وسياساته العبقرية.. وكذلك يفعل من حوله وهم يعلمون أنهم يكذبون وينافقون ويخدعون الرجل بأن يسبغوا عليه من الفضائل ما لا يتوافر فيه.. حتي إذا حانت ساعة مغادرته للمنصب كانوا أول من ينقلب عليه وجردوه من كل الفضائل وتحولوا بوجوههم إلي المسئول الجديد ليمارسوا معه نفس اللعبة.
والمصيبة أن هذا المسئول الجديد يستسلم لقواعد اللعبة وهو يعرف حقيقتها وحقيقة نفسه.. فيبدأ باعلان الكشف عن الفظائع التي ارتكبها سلفه.. وهدم ما بناه والانتقاص من انجازاته.. والبدء من نقطة الصفر.
كلنا تابعنا ماذا قال وزير التعليم الجديد عن سياسة سلفه.. وكيف وصف من فكر في "البوكليت" بأنه "عبيط".. وماذا قال وزير النقل د. هشام عرفات عن الوضع في السكك الحديدية والمزلقانات والحاجة إلي حلول غير تقليدية ومليارات الجنيهات حتي ينصلح الحال.
أما وزير التموين فقد بدأ عمله - كما نعرف - بمهاجمة منظومة الخبز وما تكبده من نفقات ترهق ميزانية الدولة.. مشيرا إلي رغبته في تخفيض حصة الخبز وترشيد الكارت الذهبي.. ونقلت عنه مصادر بالوزارة انه قرر صرف 4 سلع فقط علي البطاقة التموينية.. وبسبب هذا اللغط المبكر هاجت الدنيا وانتشرت الشائعات وكان لابد أن يتراجع علنا ويعتذر.
ولا يمكن في هذا الصدد أن ننسي ما قاله جمال عبد الناصر عن الوضع في مصر قبل الثورة.. حتي تصور جيلنا في مرحلة من المراحل أن تاريخ مصر بدأ مع ثورة 1952 ولا يمكن ان ننسي أنه نفي اللواء محمد نجيب من كتب التاريخ نهائيا ليصبح هو أول مصري يحكم مصر.
ثم جاء السادات فكرر نفس التجربة.. حيث أعلن أن التركة ثقيلة جدا وعبد الناصر - الله يرحمه - ترك خزينة البلد خاوية والسجون تعج بالمعتقلين.. وبعد أن وقع كامب ديفيد ومعاهدة السلام مع إسرائيل وعد الشعب بالرخاء الكبير عام 1980 وهو الرخاء الذي لم يتحقق حتي الآن.
في 1981 جاء مبارك إلي الحكم بعد حادث الاغتيال الاثيم فصارح الناس بالأوضاع الاقتصادية السيئة والبنية الأساسية المهترئة وأخرج القيادات السياسية من السجون.. وعقد مؤتمرا قوميا لانقاذ الاقتصاد المتدهور.. لكن مبارك وقع في نفس الخطأ حين جعل من نفسه بطل نصر اكتوبر وصاحب الضربة الجوية التي فتحت أبواب الحرية.. وبعد ثورة 25 يناير ظهرت حقائق كثيرة عن تهريب الأموال وصفقات رجال الأعمال وتزوير الانتخابات.. وتبين اننا في "شبه دولة" وليس دولة حقيقية.
السؤال الآن: هل يمكن أن ينصلح حالنا إذا لم نغير هذه الثقافة البائدة.. ثقافة الفراعنة.. لنعيش في دولة مؤسسات راسخة ومستقرة؟!