الأهرام
د. سليمان عبد المنعم
عن حماية المال العام والقانون «اليوغسلافى»!
تداول الرأى العام فى الآونة الأخيرة على شاشات الفضائيات وفى الصحف ما مفاده أن النصوص المتعلقة بحماية المال العام فى التشريع المصرى لا تبدو عصريةً لأنها منقولة عن القانون اليوغسلافى فيما مضى بما كان يعكس العلاقة الوثيقة بين الزعيم الراحل جمال عبد الناصر والرئيس اليوغسلافى السابق «تيتو». الأمر الذى يعنى غل يد الكثيرين من المسئولين عن إصدار قرارات خشية سقوطهم «البريء» فى براثن هذه التشريعات الشريرة!

نحن إذن أمام قضية جديرة بالنقاش ليس فقط لأنها تتضمن معلومةً تحتاج إلى تدقيق واجب، ولكن أيضاً لأن الاعتداء على المال العام كان ومازال هو البلاء المستعصى والذى بسببه يدور أحد تروس عملية التنمية فى بلادنا فى حركة مفرّغة.يحدث هذا فيما نتابع ما يجرى فى فرنسا هذه الأيام إذ بدأ التحقيق القضائى رسمياً مع المرشح فى الانتخابات الرئاسية المقبلة «فرانسو فييون» لاتهامه بتقاضى زوجته نحو 3500 يورو شهرياً كمساعدة برلمانية له لفترة من الزمن. ثم ما كشف عنه أيضاً من حصول زوجته على مبالغ مالية مقابل كتابتها عدة مقالات لمجلة أدبية يملكها أحد أصدقائه!فهل يمكننا الادعاء بأن لفرنسا الليبرالية تشريعات جائرة ومعوّقة للإصلاح والتنمية؟

وابتداء فلست أقلل من أهمية الرأى القائل بأن لدينا فى تشريعات حماية المال العام بعض النصوص العقابية الجديرة بالمراجعة والتعديل لأنها بالفعل ذات صياغة «هلامية» غير دقيقة لا تتسق مع المبادئ الدستورية. لكن ما ليس دقيقاً أيضاً هو إطلاق القول إن التشريع اليوغسلافى (وقت أن وُجدت يوغسلافيا) هو مصدر الترسانة التشريعية فى مجال مكافحة جرائم الاعتداء على المال العام فى مصر أو فى مجال مكافحة الفساد عموماً، أو الاعتقاد أن لتشريعنا العقابى نزعة إشتراكية تمثل عائقاً يحدّ من جهود الوزراء والمسئولين الإصلاحيين فى ثورتهم الإدارية المجيدة التى نسمع عنها ولانراها ضد البيروقراطية. المفارقة هى أن نكتشف أن معظم حالات التوسع فى تجريم الاعتداء على المال العام قد تمت إضافتها إلى قانون العقوبات المصرى بموجب القانون رقم 63 لسنة 1975 أى بعد خمس سنوات كاملة من رحيل جمال عبد الناصر بالتزامن مع بدء مرحلة ما سُمى بالانفتاح الاقتصادى فى عهد الرئيس السابق أنور السادات، فجريمة التربح التى تطارد الكثير من المسئولين وكبار الموظفين لم يتسع نطاق تطبيقها فى صورتها الحالية إلا فى عام 1975، أما قبل هذا التاريخ فقد كان التجريم مثقلاً ببعض الشروط التى لم تعد قائمة، ولم يُجرّم إلا منذ العام نفسه إخلال الموظفين العموميين بنظام توزيع السلع. كما أن الإهمال فى صيانة أو استخدام المال العام لم يتم تجريمه إلا فى عام 1972. أكثر من هذا أن جريمة تعدى موظف عام على أراضى زراعية أو عقارات تأخذ حكم المال العام أو تسهيل هذا التعدى للغير هى جريمة لم يعرفها التشريع المصرى إلا فى العام 1984 أى بعد وفاة عبدالناصر بـ 14 سنة كاملة!

الحقيقة المعروفة، هى أن الأكثرية الساحقة للتشريعات الجنائية لدينا تجد مصدرها التاريخى فى القانون الفرنسي، وهو قانون ذو سمة ليبرالية. أما النزعة الاشتراكية لبعض القوانين مثل قانون المدعى العام الإشتراكى (الذى تم إلغاؤه على أى حال) فكانت ذات طابع استثنائى وعابر لا يسوغ الانطلاق منها لتعميم القول إن التشريع الجنائى المصرى مقتبس من القانون اليوغسلافى أو أنه قانون اشتراكى النزعة أو ناصرى التوجه فلم يعد للنظام القانونى الاشتراكى اليوم سوى محض قيمته التاريخية وأصبح من ذكريات الماضي,

من الصعب الاعتقاد أن الفاسدين والمتاجرين بالوظيفة العامة أوالمتربحين منها هم ضحايا لقانون عقابى فاشي. لا أود التطرق هنا إلى التصنيف المتأخر لمصر على القائمة السنوية لمدركات الفساد التى تصدرها منظمة الشفافية الدولية، فما يُكشف عنه كل يوم من وقائع الفساد، يؤكد المشكلة ولا ينفيها ويغنى عن أى تعليق. ربما يعتقد البعض أن إصدار أحكام قضائية بالبراءة لصالح الكثيرين من المتهمين بالفساد أحياناً هو أمر يعنى أن القانون الجنائى كان جائراً أو قاسياً فى مواجهة مسئولين أبرياء لأن معظم هذه الأحكام بالبراءة تصدر استناداً لأسباب إجرائية وشكلية وما أكثر هذه الأسباب التى قد تصم الإجراءات بالبطلان دون أن يعنى هذا بالضرورة أن المتهم لم يكن هو مرتكب وقائع الفساد. الملاحظات السابقة لا تنفى أن لدينا بعض نصوص التجريم والعقاب التى تحتاج إلى مراجعة وتطوير فى مجال جرائم الوظيفة العامة والاعتداء على المال العام مثل الجريمة التى يمكن أن تلحق اى متعاقد مع الدولة نتيجة إخلاله بتنفيذ احد عقود المقاولة أو النقل أو التوريد أو الالتزام أو الأشغال العامة أو الغش فى تنفيذها، فهذا إسراف فى التجريم ويخالف أحكام اتفاقيات دولية صدّقت عليها مصر ونشرتها فى الجريدة الرسمية من أنه لا يجوز حبس شخص لعدم وفائه بالتزام تعاقدي،إذ يمكن معالجة هذا الإخلال بوسائل قانونية أخري.كما أن الترسانة التشريعية لجرائم الفساد تعتمد «تسعيرة» عقابية واحدة للعديد من جرائم الاعتداء على المال العام أو الوظيفة العامة برغم ما يوجد من تفاوت كبير أحياناً فى مدى الأضرار الناشئة عن هذه الجرائم أو درجة خطورة الجانى نفسه. ربما يُقال إن معالجة هذا الوضع ممكن من خلال استخدام المحكمة سلطتها التقديرية فى تخفيف العقوبة، لكن هذا وحده لا يكفى لأن سلطة التخفيف لا تعدو أن تكون جوازية متروكة لمحض تقدير القاضي.

والواقع أن الفكر العقابى الحديث لا يكف عن التطور والبحث عن بدائل قانونية رادعة للجاني، وفاعلة لنظام العدالة نفسه، ومجدية للدولة وكلها تدور حول نظم العدالة التصالحية. المشكلة: مشكلتنا أن معظم نظم العدالة التصالحية التى أخذ بها القانون المصرى أخيراً مثل القانون رقم 16لسنة 2015 الذى يجيز التصالح فى جرائم المال العام قد خلق من الإشكاليات بأكثر مما قدم حلولاً لأنه بدا قانوناً متسرعاً لا يلبى معايير العدالة الحقة ولا يتسق مع بعض المبادئ القانونية المتعارف عليها. وهذه هى إحدى سماتنا حين نقدم إجابات خاطئة على أسئلة صحيحة ومشروعة! ما يمكن قوله فى نهاية المطاف: إن جرائم المال العام فى مصر تحتاج إلى سياسة تشريعية رشيدة، والرشد لا يعنى (الإفراط) العقابى لكنه أيضاً لا يعنى (التفريط) فى المال العام. ولئن كان الاعتراف واجباً بأن جريمةً مثل الإضرار بالمال العام تحتاج إلى مراجعة لضمان اتساقها مع المبادئ الدستورية وأصول الصياغة التشريعية السليمة فإن الاعتراف واجب أيضاً بأن لدينا نصوصاً تحتاج إلى تطوير بقدر التطور الذى لحق وسائل وفنون وحيل الاعتداء على المال العام. ولنبدأ بتشريعات ولوائح الظلام التى تقنّن الفساد أحياناً وتمنحه غطاء قانونياً لكن أحداً لا يشعر بها. هذا ضربٌ من ضروب الفساد المقنّن الذى آن أوان مواجهته. وقصة سيارات البرلمان الفارهة لم تكن سوى نموذج للوائح وقرارات الظلام!
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف