الوطن
عاطف بشاى
فى ذكراه.. الكاتب الجبار والضعف الإنسانى
رغم أنه مقال وليس رواية أو قصة قصيرة لمبدع عُرف عنه أنه قصّاص هو «إبراهيم أصلان»، فإنه شدنى بمغزاه الإنسانى الذى صاغه بصدق وعذوبة.

المقال بعنوان «لقاء وحيد مع العقاد».. يؤكد «أصلان» فى بدايته أن «العقاد» ظل يمثل بالنسبة له حالة من حالات الرعب الذى لا ينتهى حتى بعد أن قرأ له بعضاً من عمله الكبير.. دون أن يتحول إلى واحد من قرائه المولعين.. إنه مثل «العقاد» لم يحصل إلا على الابتدائية القديمة.. وفى صباه كان يروح ويجىء أمام الأهل والأصدقاء محملاً بمزيد من الكتب مما جعله معرضاً بين حين وآخر إلى سماع تلك العبارة التهكمية: حضرته فاكر نفسه «العقاد».

يقول «أصلان»: وهكذا تحول الرجل، الذى مثل مع طه حسين جناحى الأسطورة التى هيمنت على حياتنا الفكرية والروحية، إلى هالة رهيبة لا فضيلة لها إلى الزراية بى..

وكان أبى عندما تأتى سيرة العقاد يقول، وهو قاعد على الكنبة يعبث بمسبحته: «يا باى.. ده جبار».. مع إنه (يرحمه الله) لم يكن قد قرأ له حرفاً واحداً.. ولكن ذلك زمن كان الكتاب يتحولون فيه إلى جمل من المعانى الكبيرة التى تكتسب حياتها المستقلة عن حياة أصحابها والتى تشيع بين الناس وتؤثر فيهم أكثر مما تؤثر كتاباتهم ذاتها.

وجدير بالذكر أن نشير هنا إلى أن صفة «الجبار» بالذات قد التصقت بالعقاد بعد أن أطلقها عليه زعيم الأمة «سعد زغلول» فى العشرينات من القرن الماضى.

لم يكن «أصلان» فى ذلك الوقت بطبيعة الحال قد رأى «العقاد» حتى كان أحد أيام (1963) وبينما كان يسير فى شارع «شريف» حتى فوجئ به فى مواجهته مباشرة.. فتسمر «أصلان» فى مكانه وتأمله: قامة مديدة، وبدلة فاتحة مقلمة، ونظارة وكوفية رفيعة طويلة.. ومثل كل أسطورة جليلة يمكن أن تدب على قدمين احتل هو الإطار المهيأ له فى روحى احتلالاً كاملاً.. وعندما اقترب رأيت العينين الصافيتين.. استدار أصلان ومشى وراءه.. توقف العقاد أمام مكتبة صغيرة تعرض أدوات كتابية.. انحنى وهو على مبعدة من عتبة المكتبة بسبب طوله.. وتأمل قلماً.. فعل ذلك لفترة ثم مد يده إلى جيب سترته الداخلى.. وأخرج قلماً.. وانحنى أكثر وهو يمسكه بين يديه.. تأمله هو الآخر.. وعاد يتأمل القلم المعروض.. وينظر إلى القلم الذى بين أصابع «العقاد» ويندهش.. حيث لم يكن هناك وجه للشبه أو المقارنة لا فى الحجم.. ولا فى اللون.. يقول «أصلان»: وهكذا وقفت ساكناً أحدق فى الأدوات المعروضة شأن أى زبون آخر.. وشعرت أنه أحس بى دون أن يلتفت.. حينئذ ألقى نظرة أخيرة بين القلمين وأعاد قلمه إلى جيبه.. وهو يعتدل ويبتعد أمامى متمهلاً على الرصيف العريض.. ويستدير هناك مع ناصية المبنى الكبير ويختفى ومضت شهور قليلة.. ومات..

والمحتوى الفلسفى هنا، رغم بساطة اللقطة، يؤكد أن «العقاد» الجبار الشامخ بمكانته الرفيعة، فى النهاية هو إنسان مثل كل البشر.. يتوقف أمام تفاصيل صغيرة.. يتردد أمام قلم فى فاترينة.. هل يشبه قلمه القلم المعروض فى المكتبة؟!.. أيهما أفضل؟! هل يشتريه أم لا؟!

وحينما يمضى إلى سبيله.. فهو يصبح واحداً من المارة مجهولى الهوية.. وفى النهاية يموت كواحد منهم.. مثل كل البشر.. وباطل الأباطيل الكل باطل وقبض الريح.. وتأكيداً لهذا المعنى فإن المتأمل لحياة «العقاد» وسيرته الذاتية يرى المفارقة الإنسانية تتمثل فى أن هذا الشامخ «الجبار» مثلاً الذى لم يقبل إهانة «الباشكاتب» له وهو يعمل موظفاً تحت رئاسته فى بداية حياته العملية فى أحد التفاتيش.. حينما رفض أن ينساق إلى كتابة الخطابات المرسلة إلى جهات مختلفة بصيغة تغلب عليها المفردات اللغوية التركية فوبخه الباشكاتب فما كان من «العقاد» إلا أن ثار لكرامته ورد الإهانة بأقسى منها وأغلظ القول للرجل الذى شكاه إلى «الباشا» فاستدعاه للتحقيق معه فإذا به يقدم استقالته ويصر عليها.. ويخرج إلى الشارع لا يملك ما يستند عليه فى زمن: «إن جالك الميرى اتمرمغ فى ترابه».. وكانت أول استقالة فى تاريخ الإدارات الحكومية.

هذا الرجل القوى الجبار هو نفسه الذى يلجأ إلى حيلة رعناء لا يقدم عليها إلا شاب متيم بمطلقة مستهترة هى «سارة» فيكلف شاباً مقرباً منه أن يراقب تلك العشيقة مراقبة يومية دقيقة حينما شك فى سلوكها.. وفى احتمال خيانتها له..

وكان الرقيب موفقاً لأنه زود «العقاد» بالحجة القاطعة التى يواجه بها غوايته ويقمع بها نكسات ضعفه كلما ساوره الندم وعزت عليه السلوى.. وأخبره الرقيب يوماً أنها الآن فى مخدع فى بيت قريب تبعها إليه.. وعرفه وعرف اسم صاحبه وعرف أنها تغشاه من حين إلى حين.. فأنهى بطل روايتنا علاقته بتلك الخليلة بعد لقاء حزين أعطاها فيه أوراقها وصورها وذكرياتها وأعطته صوره وذكرياته.. لكنه فى ضعف المحب العاشق -رغم الخيانة- يقول «إلا أن كيوبيد شيطان مريد له لؤم الشياطين ونزعاتهم ومكائدهم وكرامتهم أن يتركوا الناس هادئين وادعين.. فمن حين إلى حين كان يسمعه يهجس له ويوسوس فى صدره ليسلبه ارتياحه إلى فراق سارة وقدرته على تناسيها.. فلا يفتأ يعاوده أبداً بهذا السؤال: أليس من الجائز أنها وفت لك فى أيام عشرتها واستحقت وفاءك لها وصيانتك وغيرتك عليها؟!.. أليس من الجائز أنها يئست منك فزلت بعد الفراق؟!».

أما صالون مى زيادة، الأديبة اللبنانية، فقد شهد قصة حب «العقاد» لها التى تطورت حتى عرض عليها الزواج.. لكنها رفضت لاختلاف ديانتهما وانتهت علاقتهما بعد صدمتها لاكتشافها خيانته لها مع «سارة» حيث ذهبت إليه فى مكتبه بالجريدة التى كان يعمل بها وأعادت له رسائله فبكى بين يديها طالباً المغفرة لكنها أبت وانصرفت فى كبرياء منهية علاقتها به وعندما ماتت كتب فى رثائها واحدة من أهم قصائده التى يقول فيها: رحمة الله على «مى» خصالاً/ رحمة الله على مى سجالاً/ رحمة الله على «مى» جمالاً.

إن الكاتب الجبار الذى خلع حذاءه ولوح به فى البرلمان صائحاً: «إن هذا الحذاء قادر على سحق أكبر رأس فى هذا الوطن»، وسُجن لعيبه فى الذات الملكية، هو أيضاً ذلك العاشق الرقيق الضعيف أمام جبروت الحب ونزوات الغرام، وغواية المحبوبة.

إنه الإنسان.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف