الوطن
يحيى حسين عبد الهادى
ضد الفساد لا الخصخصة
بدأ برنامج الخصخصة المصرى من حوالى 25 سنة بمجموعة من الأكاذيب المتعمدة لتخدير الشعب المصرى من عيّنة: أننا سنبيع الشركات الخاسرة لدعم الشركات الاستراتيجية وبناء صناعات جديدة وتوفير فرص عمل جديدة ولا مساس بحقوق العمال، بالإضافة لعدد من الخطوط الحمراء لأصول الدولة الأخرى خارج شركات قطاع الأعمال لن يتم الاقتراب منها.. فما الذى حدث؟ بيعت الشركات الرابحة وتم تخريد معظمها والقضاء على صناعات حيوية وإقامة أبراج سكنية للصفوة مكانها. أما الشركات والمصانع التى لم يتم تخريدها، مثل شركات الأسمنت، فقد تحولت إلى ممارسات احتكارية (لأجانب فى الغالب) بما زاد من ضنك الشعب وأعاد الاقتصاد المصرى نحو قرن إلى الوراء، أى إلى ما قبل نهضة طلعت حرب. وتم إخراج ما يقترب من مليون عامل ماهر إلى المعاش المبكر، بالإضافة إلى عدد مقارب تم تطفيشهم بواسطة المُلاّك الجدد بعد بيع الشركات وانضم معظمهم إلى طابور البطالة، وهى جريمة تشبه جريمة سليم الأول بحق الصُنّاع المهرة فى مصر. إن البطالة فى حد ذاتها جارحة لكرامة الإنسان، ولكن بطالة من سبق له العمل كأصحاب المعاش المبكّر أشد إيلاماً.

ورغم فداحة ما سبق فإن الفساد الأكبر كان أنه تم تقريباً بلا مقابل (حوالى عُشر القيمة) وحتى هذا الثمن البخس تبخّر فى الهواء الفاسد. ونلفت النظر هنا إلى أن حديثنا منصب على شركات قطاع الأعمال العام فقط (كان عددها فى بداية البرنامج 317 شركة)، ولا نتحدث عما بيع من ممتلكات عامة أخرى كالبنوك وشركات التأمين ومساهماتها وأسهم المصرية للاتصالات وأراضى الدولة ومشاريع المحليات. نحن نتحدث عن شركات قطاع الأعمال العام فقط التى بيع نصفها (حوالى 160 شركة معظمها رابح).. كان التقييم المتوسط للشركات التى بيعت دون تهويل أو تهوين حوالى 200 مليار جنيه (منذ ربع قرن)، فبكم بيعت؟ بلغت الحصيلة الحقيقية وفقاً للجهاز المركزى للمحاسبات 23.655 مليار جنيه (ثلاثة وعشرون ملياراً وستمائة وخمسة وخمسون مليون جنيه)، أى أن حجم الفساد فيما تم بيعه يزيد على 176 مليار جنيه كانت كفيلة بحل الكثير من مشاكل الشعب المصرى الصابر (هذا بافتراض الموافقة على مبدأ البيع أصلاً).. أما أين ذهبت هذه الحصيلة المتدنية فقد فصل ذلك تقرير الجهاز المركزى للمحاسبات كما يلى: ثلاثة مليارات وسبعمائة وستة وستون مليون جنيه فقط للإصلاح الفنى والإدارى وإعادة هيكلة الشركات (تمهيداً لبيعها!) + مليارين وستمائة وسبعة وسبعين مليون جنيه لإخراج العاملين إلى المعاش المبكر (أى أن الخراب مزدوج، فالدولة باعت أصولها لتزيد بثمنها طوابير البطالة!) + 17.212 مليار (سبعة عشر ملياراً ومائتان واثنا عشر مليون جنيه) أضيفت لإيرادات الدولة التى دعمت بها إنفاقها العام وهو إنفاق سفيه، حيث يمكننا القول بمنتهى الثقة (والحسرة) أننا بعنا أصولاً منتجة وشردنا عمالها بعُشر ثمنها ثم أنفقنا هذا الثمن البخس على ديكورات القصور الرئاسية ومكاتب المسئولين ورحلات الهانم ووصيفاتها وبناء جراج فى رمسيس ثم هدمه. لم نكن ضد فكر اقتصادى معيّن (هذا إن صح تسمية البيع فكراً)، فأن تبيع بيتك لتأكل بثمنه دليل إفلاس لا دليل فكر.. فإذا كنت تبيع بيتك لا لتأكل وإنما لتلهو وتعبث فإن الإفلاس يتحول إلى سفه.. فإذا كان هذا البيع بأقل من القيمة الحقيقية فالأمر يتجاوز السفه إلى الجريمة.. فإذا كانت هذه الجريمة دون تفويض من المالك، بل على عكس إرادته، فنحن أمام بلطجة فاجرة.. وحسبنا الله ونعم الوكيل.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف