جمال سلطان
ذكرى 19 مارس ..الزهايمر السياسي الذي أصاب الجميع
في مثل هذا اليوم ، التاسع عشر من مارس عام 2011 ، عام الثورة المجيدة ، كان الاستفتاء الدستوري الأول بعد الثورة على حزمة تعديلات دستورية أشرفت عليها لجنة برئاسة المستشار الفاضل طارق البشري ، وهناك إجماع على أن التعديلات في حد ذاتها كانت دعما للديمقراطية وتحصينا للانتخابات وشفافيتها وتحقيقا جزئيا لأهم مطالب الثورة ، ولكن الخلاف كان على توقيت الخطوات ، وخاصة الدعوة لانتخابات برلمانية خلال ستة أشهر ، حيث اعتبر نشطاء وقوى مدنية أن هذا وقت قصير ولا تستطيع فيه تلك القوى ترتيب أمورها ، وأن الانتخابات ـ في تلك الفترة ـ لن يستفيد منها سوى الإخوان الأكثر تنظيما وفلول الحزب الوطني الأكثر خبرة ، وكثير من نشطاء القوى المدنية حاليا يعتبرون هذا الاستفتاء انتكاسة للثورة ، وأنه أول مسمار في نعشها ، وبعضهم اعتبرها الجريمة الأعظم ، وهو كلام عاطفي لا يستند إلى منطق ، ويمثل ـ في تقديري ـ استمرارا لمحاولات الهرب من المسئولية عن إضعاف الثورة وتراجعها .
الأصوات المدنية تعلقت بكلمات دعائية ساذجة قالها شيخ سلفي يدعى حسين يعقوب في درس ديني له في أحد المساجد وصف التصويت في صيغة فكاهية بأنه "غزوة الصناديق" ، فتركوا كل شيء وتعلقوا بتلك العبارة ، وهذه طفولية سياسية بكل تأكيد ، والحديث عن أن الاستفتاء مكن الإخوان وفلول الوطني من السيطرة على البرلمان لم يكن صحيحا ، فلم يفز فلول الوطني بخمسة في المائة من البرلمان ، كما أن قوى إسلامية جديدة على العمل السياسية مثل حزب النور ، لم يكن له أي خبرات سياسية أو قدرات تنظيمية مثل الإخوان ، فاز بأكثر من 25% من مقاعد البرلمان ، بما يعني أن "العيب" كان في شعبية القوى المدنية وكسلها السياسي وارتكانها لشعبوية الشارع الفوار وقتها ، وليس في أصل الفكرة ، كما أن الانتخابات قطعت الطريق على الفلول وعلى هيمنة المجلس العسكري ، لأنها انتزعت حق التشريع والرقابة لممثلي الأمة المنتخبين بالفعل ، لكن الحقيقة أن المشكلة كانت في إساءة العمل من خلاله والتهريج الذي مورس فيه ، والانتهازية السياسية التي ظهرت على بعض القوى الإسلامية فيه ، وهو ما عقد الأمور .
الحديث عن أن الدستور الكامل لو أنجز وقتها لانتصرت الثورة وتهمش المجلس العسكري كلام طوباوي بعيد عن الواقع والمنطق ، لأن انجاز هذا الدستور الكامل كان يمكنه أن يستغرق عدة سنوات تكون كافية لتمكين المجلس العسكري وقتها وانفراده بكل شيء ، كانت الصعوبات واضحة ، بدءا من اختيار لجنة صياغة الدستور ، حيث لا يوجد أي بنية مؤسسية تختار هؤلاء ، إلا أن نسلم باختيار المجلس العسكري لهم ، ولو تم اختيارهم بالانتخابات فالنتيجة معروفة ولن ترضي القوى المدنية أبدا ، كما أن التوافق على كامل نصوص الدستور في ظل التشتت وبعثرة الشارع والقوى السياسية كان شبه مستحيل ويحتاج لحوار وطني طويل ، أضف إلى ذلك أن القوى المدنية أنجزت بالفعل دستورها "المدني" في 2014 ، وهو دستور رائع بالفعل ويضاهي أعظم دساتير العالم ، ولكنه بقي حتى الآن نصوصا "تبلها وتشرب ميتها" ، لأن الدول لا تبنى بالدساتير وإنما تبنى بتوازن القوى شعبيا ومؤسسيا ، ويأتي الدستور تسجيلا لهذا التوازن وحماية له .
القوى المدنية تقيم مراسم العزاء في 19 مارس عن (المسمار) الذي دقه الإسلاميون في نعش الثورة ، لكنها لا تتذكر (الخازوق) الذي ألبسوه هم أنفسهم للثورة في يوليو 2013 ، وعكس ذلك صحيح أيضا ، لأن الإسلاميين الذين يقيمون مراسم العزاء لما جرى للثورة والحريات بعد 3 يوليو ، تضعف ذاكرتهم عن تذكر ما فعلوه هم سابقا عندما تحالفوا مع المجلس العسكري فأضاعوا أنفسهم والثورة معا ، الجميع يحاول البحث عن شماعة ، والجميع يتحدث عن الذاكرة الفولاذية "لن ننسى" عندما يكون الأمر متعلقا بأخطاء الآخرين ، لكن ذاكرته تكون مريضة ومغيبة ويصاب بالزهايمر عندما يكون الأمر متعلقا بأخطائه هو وجنايته على الثورة والوطن كله ، وطالما بقي الجميع مستغرقين في رحلة البحث عن "شماعة" ، وتقديم كل طرف نفسه في مظلومية تاريخية ، وضحية لانتهازية الآخرين ، وقد سبقهم بها ، فلن ينصلح الحال ، ولن تجرى أي مراجعات جادة ، وسيظل "صوان العزاء" منصوبا لثورة يناير إلى سنوات طويلة قادمة .