الأهرام
عزت ابراهيم
خذوا الحكمة من “أرض النار‫”..!‬
قبل قرن ونصف قرن حط الشقيقان لودفيج وروبرت نوبل (شقيقا الفريد نوبل مؤسس الجائزة الأشهر) برحالهما فى بلد كان مقدرا له أن يشهد تطورا عظيما فى تاريخ البشرية.. فى عام ١٨٤٨ تحديدا كان الكشف الأهم عن وجود خام البترول فى دولة أذربيجان التى مازالت عاصمتها باكو يطلق عليها حتى اليوم “أرض النار” نسبة الى جبل لم يكن يعرف سبب النيران التى تخرج من جوفه الا بعد ظهور البترول والغاز.. وحتى لا يخمد وهج الاكتشاف الاعظم خلدت الدولة الحدث بإقامة شعلة لا تنطفيء نيرانها على أعلى ربوة فى العاصمة الجميلة التى تقبع هادئة ووديعة ترتدى ثوبا عصريا على بحر قزوين. زرت أذربيجان للمشاركة فى مؤتمر مستقبل العلاقات الدولية الذى عقدته مركز نظامى كنجوى الدولى مع مكتب الإسكندرية الاسبوع الماضى حيث دعت الدولة المضيفة رؤساء دول من اسيا الوسطى وشرق ووسط أوروبا “حاليون وسابقون” للاستماع الى آرائهم حول ما يجرى فى العالم وكانت الواجهة المشرفة لمصر ممثلة فى الدكتور إسماعيل سراج الدين مدير المكتبة والرئيس المشارك لمركز نظامى والسيد عمرو موسى الامين العام السابق للجامعة العربية. منذ الاستقلال عن الاتحاد السوفيتى السابق تبدلت الاحوال فى هذا البلد وحقق البترول والغاز طفرة مهمة فى عوائد أذربيجان وهو ما أسهم فى عملية إعادة بناء مدروسة فى عشر سنوات تقريبا قبل أن تضرب موجة هبوط جديدة أسواق النفط وينتهى تقريبا عصر البترول مرتفع الثمن ربما الى الأبد!

نهضة المجتمع فى اذربيجان تقوم على التعليم بشكل أساسى ولا توجد أولوية أهم من تلك المهمة والنتيجة تنوع كبير فى الوافدين الى سوق العمل وقدرة أعلى على جذب الاستثمارات. الوجه العصرى للعاصمة باكو، وهى واحدة من انظف وارقى المدن فى منطقة القوقاز وتتفوق على مدن أوروبية كثيرة يخفى فى ثناياه قصة تستحق أن تروى عن كيفية الاعتناء بالتراث والتاريخ. فهناك حى صغير تحده اسوار قديمة يحكى تاريخ الحكام الكبار فى تاريخ الشعب الاذارى وكل شيء فى الداخل تم تجهيزه بعناية فائقة ليروى جزءا من تاريخ ممتد لقرابة ثمانية قرون وبدايات عصر صناعة السجاد اليدوى التى تشتهر بها اذربيجان وأهم الحرف اليدوية التى مازالت تفتخر بها أمام العالم. تجذب اذربيجان اليوم سياحا من مناطق قريبة مثل الخليج العربى وتقدم لهم تسهيلات عديدة وتخطط لما هو أبعد بهدف تنويع مصادر الدخل بعد انحسار عوائد النفط.

والى جانب المقاصد السياحية يقدم البلد نفسه الى العالم ليس فقط لكونه بلدا يحمل تاريخا طويلا ولكن كدولة ذات أغلبية مسلمة تطبق قيم التعايش والمساواة لكل أصحاب الديانات دون تمييز او متاعب للأقليات الموجودة على أرضها بفضل حالة الوسطية الدينية التى تنعم بها والتى تساوى المسلم والمسيحى واليهودى فى الحقوق والواجبات ودون أن تجهد مؤسسات الدولة نفسها فى متاهات تجديد الخطاب الدينى او تنقية كتب التراث وغيرها من المصطلحات التى ندور فيها وحولها بلا حلول حقيقية.

تلك الحالة الوسطية مكنت المجتمع الأذربيجانى من تقديم رموز الفكر والثقافة فى صورة بهية وحضارية تليق بمجتمع حديث يجمع روافد الثقافة على مدى قرون معا فى بوتقة واحدة . فلا تتعجب لو صادفت فى شوارع باكو تماثيل عملاقة لكبار الادباء والشعراء وفى قلب المدينة يوجد “متحف الآداب” شاهدا على بلد لا يخاصم ماضيه ولا ينسى مؤسسيه. وربما تكون حالة الرقى الثقافى والتسامح الدينى هى السبب فى لمسة الأناقة التى تكتسى وجه البلد والتعاملات الإنسانية الراقية التى تستشعرها فى ابناء اذربيجان سواء فيما بينهم أو مع الأجانب. فلا يوجد تكلف أو فهلوة أو عجرفة فى المعاملات كما لو كان هناك “كود أخلاقي” يجمع الكبير والصغير وحتى الباعة فى الأسواق لا يمارسون جلافة فى التعامل مع الغرباء مثلما هو الحال فى دول كثيرة بل يحرصون على تقديم أنفسهم للأجانب بوعى حتى يعودوا لزيارة بلادهم مرة أخرى. ليست المسألة فى أن عدد السكان أقل من ١٠ ملايين نسمة، ٤ ملايين نسمة فى باكو وحدها، فهناك دول كثيرة تمتلك موارد الثروة مثل النفط والغاز ولكنها ابتليت بأنظمة حكم رجعية واستبدادية لم توفر لمجتمعاتها حدا أدنى من أسباب التقدم مثل الاعتناء بالعلم والمعرفة ولدينا فى دولة جوار مثل ليبيا مثالا حيا وربما هو واحد من العبر التاريخية التى تدلل على طرق إهدار الثروات فيما لا يفيد. بالعودة الى تاريخ أذربيجان منذ القرن الرابع عشر نجد أن حكاما كبارا مثل ابراهيم الاول وخليل الله الاول أوليا اهتماما بفن الحكم وايجاد توازن فى السياسة مع الدول المحيطة والقوى المعتدية على اراضى الغير فى تلك الحقبة من أجل تجنيب بلادهم ويلات الحروب وقد نجح هؤلاء الحكام المتعاقبون فى حفظ التوازن لحقب تاريخية طويلة فى وقت كانوا يمنحون العلم والآداب وعلوم الدين نصيبا كبيرا من الاهتمام وهو ما ورث تراثا صادقا من الرقى الدينى والثقافي.

بصراحة، لا يهم ما اذا كان الرئيس إلهام علييف على هوى القوى الغربية او ليس على هواها ولا يهم مسألة توارث الحكم عن أبيه لان العبرة بما يحققه المجتمع من تقدم ومن يزور بلدا مثل اذربيجان يشعر كيف أن دولا ذات أغلبية مسلمة، خارج حدود الشرق الاوسط، قد تعرضت للظلم فى صورتها الذهنية أمام العالم تحت وطأة الحالة الكارثية التى نحن عليها فى تلك البقعة البائسة من العالم!

نحن أسرى افعالنا وتخلف أوضاعنا والصورة الرجعية للدين التى صنعت جماعات وفرقا متطرفة هناك على خريطة العالم الإسلامى من يرفضها تماما وللاسف غالبية تلك الحالات بعيدة عن مركز الجاذبية الذى يصنع الصورة القبيحة- أقصد الشرق الأوسط.

من وحى الرحلة الى مدينة النار، تجديد الخطاب الدينى أو الثقافى لا يكون بالاصطناع أو التلفيق ولكن بنهج ينتصر للعقل دون حسابات أو مؤامات لا تغنى ولا تسمن!
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف