قال لي صديقي خذ مسافة من السياسة وركز في التراث وتجديد الفكر الديني فأداؤك فيه أكثر إفادة من دهاليز السياسة ومشكلاتها التي لا تنتهي. مشكلة الفكر الديني فعلًا هي مشكلة أكثر من قرنين من الزمن، منذ أن صدمتنا الحضارة الفرنسية بتفوقها المذهل في عام 1798 ونحن في صدمة لم نستفق منها حتى الآن، هل نقلدهم تقليدًا تامًّا شبرًا بشبر وذراعًا بذراع؟ أو نبتعد تمامًا، لأنهم خطر على هويتنا وخطر على ديننا، وهم أعداء متآمرون يتآمرون على ديننا ويجب أن نخالفهم كما أمرنا رسول الله؟ أم نصنع نوعًا من التداخل (المكس) بين التمسك بالهوية من ناحية وبين الاستفادة من الغرب وعلمه وحضارته من ناحية أخرى؟ المشكلة أن نسبة هذا التداخل هي محل الصراع والنزاع منذ قرنين من الزمن. السؤال الذي لم نستطع أن نجاوب عليه، لماذا هم متقدمون ونحن متخلفون؟ مع العلم أنه قبل ثورتهم الفرنسية كانت الدولة العثمانية هي موطن الحضارة والتقدم وقمة التفوق العسكري، وكانت تسيطر على نصف أوروبا في وقت من الأوقات، ولكنهم خلال مائة عام استطاعوا صناعة طفرات غير مسبوقة في البشرية جمعاء، فعصر الطاقة والصناعة كان طفرة علمية نعيش على أثرها حتى الآن، ولا نستطيع التفلت منها، المشكلة أن منطقتنا العربية فقط هي من فقدت البوصلة، وفقدت الاتجاه، لأن الصراع على الهوية كان أكثر شدة وقوة في منطقتنا العربية، فكثير من الدول الإسلامية الأخرى قفزت طفرات في التفوق العلمي والتقدم، ماليزيا نموذجًا. ونحن كمتحدثين حصريين باسم الإسلام، لا نعي أحيانا أننا سبع العالم الإسلامي 15%، والبقية سواء كانوا أكثرية أو أقلية فليست المعركة لديهم كما هي لدينا وهم أكثر مرونة مع تفاعلات العصر. المشكلة أننا أخذنا خطوات معقولة في تحديد مسارنا في القرن التاسع عشر وحتي منتصف القرن العشرين، خاصة في مصر، ومصر هي البوصلة ليس تحيزًا، ولكن عددا وثقافة وعمقًا حضاريًّا وجذورًا، ولكننا أخذنا في التراجع رويدًا، ثم تراجعنا سريعًا بعد هزيمة 67 التي كسرتنا نفسيًّا قبل أن تهزمنا عسكريًّا، ومعركة قرنين من الزمن لن يحسمها عام أو عامان، بل إن عمرنا بأكمله قصر أو طول هو جزء من تلك المعركة التي ربما تمتد إلى أجيال لاحقة. لأنها ليست مطلقات تحفظ، ولكنها حالة حوار ممتد بين النخبة من جهة وبين النخبة والمجتمع من جهة أخرى، حتى نصل إلى رؤية للحركة واستراتيجية ثابتة للمضي للأمام، بدون هذا فنحن في معادلات صفرية، كل طرف يريد أن يسحق الطرف الآخر ويقصية تمامًا، ولن يستطيع أحد إقصاء ماديا لأحد، ولكن من الممكن بأطر فكرية مستقرة ومع الوقت والصبر والعمل الدؤوب، من الممكن أن تزيح أفكار أفكارًا أخرى، وإزاحة الأفكار ليست عملية أمنية، ولكنها عملية فكرية بامتياز، أفكار أكثر قوة وأكثر حجة تزيح أفكارا هشة، بل على العكس من الممكن للتعامل الأمني الغشيم أن يثبت أفكارًا هشة، كنوع من العند والاعتداد بالرأي والتمرد على القهر. وفي نفس الوقت لا أستطيع أن أترك السياسة والشأن العام، انغماسنا في الثورة وأحلامنا الكبيرة لا نستطيع أن نتجاهلها، ورأيي أن الحكم الرشيد، أو فلنقل الأقرب إلى الرشادة يقصِّر الطريق في معركة التراث. والرشادة ليست متطابقة مع الديمقراطية بالشكل الغربي، ربما يكون هناك نوع من التداخل والتقاطع، ولكن الأساس هو توسيع إطار المشاركة يرفع من معدلات الرشادة، وعلى سبيل المثال، رغم أن الإمارات دولة ملكية بامتياز، ولكنها تتمتع بدرجة معقولة من الرشادة، ليست مثالية بالتأكيد، ولكنها استطاعت أن تستعين بالشباب والمرأة بشكل أكبر، واهتمت بالتعليم والصحة وعلم الإدارة وحققت إنجازات معقولة، ودرجات فساد أقل ومستوى شفافية أعلى طبقًا للتقديرات العالمية. معارك السياسة قصيرة بعمر الدول والحضارات، ولكن معارك الهوية والرؤية والإستراتيجية طويلة المدى.
التدافع السياسي قادر على تقويم نفسه، وأعماره قصيرة بعمر الحكام أو فترات حكمهم، ولكن معارك الأفكار والرؤى طويلة المدى نسبيًا، وتقاس بالقرون أو أنصاف القرون. ولكننا لا نستطيع أن نترك معركة التدافع السياسي ولا نشارك فيها ونكون طرفًا فيها، وفي نفس الوقت نمارس دورنا في معركة التدافع الحضاري، لأنك في معركة التدافع الحضاري، فأنت لبنة في جيل من عدة أجيال سابقة وأجيال لاحقة، وأنت في معركة التدافع السياسي فهي معركة جيلك، ولا يجب أن تتخلي عنها أو تتركها، لأن المشكلة أن التاريخ لا يفك الارتباط بين معارك التدافع السياسي والتدافع الحضاري، وربما يتساقط قيمة أشخاص في معركة التدافع الحضاري لرسوبهم في معركة التدافع السياسي، المعتزلة نموذجًا، كنت أري أن بقاء الفكر المعتزلي وهو ترقية العقل على النقل، مع الفكر النقلي التراثي، كان ضروريا لخلق حالة التوازن، التي كانت مجتمعاتنا في حاجة إليها، ولكن لأنهم مارسوا الاستبداد السياسي في عصر المأمون ضد أفكار النقل، انتصرت معركة النقل على العقل بسبب دفع الأفكار بالقمع وليس بالعقل والحوار وهو ليس مجرد انتصار، ولكننا نستطيع القول إنها سحقتها. ولذلك لا يجب فك الارتباط، فمعركتنا مع العقل ضد النقل في قضية التراث، يجب أيضًا أن تكون معركتنا مع الحرية ضد القمع في معركة التدافع السياسي. هل يهمنا كيف سيحكم علينا المستقبل، القضية الأهم أن أكون متصالحًا مع نفسي وراضيًا عن دوري، لأن لحظة الغضب من نفسك واحتقار ذاتك هي لحظة الموت الحقيقي، قبل الموت المادي، ولا أتحدث عن شخصي ولكن عن جيلي، حركة التدافع السياسي والحضاري، بإثاباتها وإخفاقاتها، هي مجرد طاقة للمستقبل، تأتي أجيال لاحقة فلا تبدأ من الصفر، ولكن تبدأ من حيث انتهينا وتتحقق الآية القرآنية: فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ (17) سورة الرعد. وأنا أستدعيها كحكمة كونية قبل أن تكون آية قرآنية، سيعترض أحدهم قائلًا، إن تلك الآية التي يستخدمها كل المتطرفين الذين يدَّعون امتلاك الحقيقة المطلقة، ويستخدمونها لإعطاء رأيهم ومنهجهم نفع الناس والآخرين هم الزبد. ولذلك يجب التأكيد أننى لا أدعي امتلاك حقيقة بقدر ما أمتلك أسئلة، ونفع الناس هو احترام الرأي الجمعي وترك التدافع يأخذ مجراه دون إعاقة ودون مطلقات مسبقة، المجتمع يخلق مطلقاته الزمنية. وإلا فما هي الإجابة على السؤال، إذا كان الله هو من شرَّع لنا شريعة موسى وشريعة عيسى وشريعة محمد، فلماذا كانت مختلفة إذا كانت الأولى مطلقة والثانية مطلقة والثالثة مطلقة؟ للحديث بقية إن كان في العمر بقية.