أبو الفتوح قلقيلة
يا وسع جرحي عليا والوطن عندي!
لا أميل كثيرًا لاستخدام الألفاظ قطعية الدلالة في اللغة مثل حتما وقطعا ولكن هنا فقط يمكنني استخدام التوصيف (أخطر وأسوأ) بكثير من الارتياح، عندما أصف حال مصر الوطن في هذه الأيام، والوطن عندي لا يقتصر فقط على الحدود الجغرافية بل هو في الأساس المصريون ملح الأرض الذين يكابدون موقفًا عاصفًا وهو ضيق الرزق وقلة فرص العمل أو انعدامها وفقدان الأمل في وجود فعلي في بلدهم.. ولعل أحدث الدلائل على ذلك ما حدث بالأمس في ستاد محافظة كفر الشيخ والتدافع الذي حدث من الآف الشباب الفقير الذي يسعى لنيل فرصة عمل بالحلال بعيدًا عن دوامات الفقر وغياهب الإحباط التي تبتلعهم يوميًا، ولعل الإصابات التي ألمت بما يقرب من 100 شاب أبسط النتائج لما نحن بصدده من أخطار تلم بالوطن.
ربما كان أبلغ تعليق قرأته عن هذا الموضوع كان من صديقي الدكتور محمد دوير، المناضل اليساري وابن محافظة كفر الشيخ، والذي كتب قائلًا إن هذا الشباب يبحث عن وطن قبل بحثه عن عمل.. حقًا صدقت يا دكتور، فالوطن الذي يضيق على أصحابه يوشك على الضياع هو ومن فيه، غنيهم وفقيرهم لأن الكارثة عن تحل بوطن لا تفرق في عواقبها بين غني مرفه وفقير معدم، بل إن الفقراء والمعدمين لا يخشون ضياع شيء لأنهم ضائعون فعليًا منذ أمد بعيد، أما الأثرياء فلديهم الكثير والكثير مما يخشون ضياعه أو حتى نقصانه.. لذا فنحن لا نبالغ إذا ما استخدمنا ألفاظًا قاطعة من نوعية أسوأ وأخطر وأصعب عندما نصف الموقف الحالي في مصر والذي يتطلب حلولًا عاجلة فورية لرتق فجوات الفقر والتمايز الطبقي والمعيشي الفج والفاجر بين المواطنين، بين الأكثرية التي تملك لا شيء والأقلية التي تستأثر بكل شيء تقريبًا.
عاصمة إدارية وأفخم وأكبر وأعظم مدينة ملاهي!
تجد نفسك مضطرًا لاستدعاء عناوين صحفية وإخبارية أخرى من نوعية: إنشاء أكبر مدينة ملاهي في العالم في العاصمة الإدارية جديدة، أو إنشاء أكبر مول تجاري في الشرق الأوسط.. وغيرها من تلك الأخبار المستفزة والعبثية والتي تقفز لذاكرتك عندما تقرأ عن تدافع شباب مسكين من أجل الفوز بأمل في وظيفة.. مجرد أمل في شكل طلب لا يعرف أحد خاتمته، وعندما ترى تعرض البعض غير القليل منهم لإصابات بالغة من أجل لقمة عيش تسد جوعهم وتستر أهليهم، تجد نفسك في الحال تتسائل بدهشة وحنق وربما جنون: لمن تبني حكومتنا الموقرة تلك الأشياء! وبكم ستكون تكلفتها الإنشائية في حين أن إنشاء مصنع واحد فقط في كل محافظة مصرية كفيل بحل جل مشاكلنا وعللنا الاقتصادية والاجتماعية والإنسانية، بل والدينية حيث يتنامى التطرف ويتكاثر في بيئات الفقر واليأس وانعدام الرجاء.
يا وسع جرحي عليا والمسئول عندي!
كان عم "يوسف شتا" الفنان الفطري الرائع والمثقف الشعبي، رحمه الله، يبدع حكمًا شعبية وفلسفات بدون سابق إعداد يرتجلها، ولكنه كان دومًا يبدأ كل حفل له بمقولة: يا وسع جرحي عليا والزمان عندي، أي شديد العند.. لكن يبدوا أن العند ليس في الزمان بل في المسؤولين الذين ما زالوا بعيدين جدًا جدًا عن مواطن الخطر في الوطن، وهل هناك أخطر من الفقر والشعور بالعوز والحاجة وقصر اليد!
من ينصح هؤلاء ويخلص لهم ويهديهم إلى أفضل طريق للحفاظ على وجودهم في السلطة.. قليل من العدل يا سادة وإعادة توزيع الأولويات حتى تحافظوا على وجودك في أمن حقيقي وسلام اجتماعي لأطول فترة ممكنة، فحتى في أشد حالات غياب الديمقراطية في دول العالم كانت هناك دومًا الحاجات الأساسية للمواطن من فرص عمل وتعليم مجاني وصحة وطعام ميسر حاضره ومساندة للحكام قبل المحكومين.. لماذا هذا العناد والإنفاق غير المبرر على مشروعات ترفيهية ودعائية لا تحتاجونه أنتم أنفسكم كحكومة ومسؤولين قبل شعوبكم؟ لماذا لا توجه تلك الأموال لمشروعات صغيرة ومتوسطة ترحمكم وترحمنا وترحم الوطن قبل فوات الأوان.