مصر كلها تنتظر التعداد العشرى للجهاز المركزى والتعبئة والإحصاء لمصر؛ فإذا كنا جميعا جادين فى تنمية مصر، ومصر كلها لا أجزاء منها
، فإن المعلومات هى حجر الزاوية، هى التى تشير إلى مواطن العجز، وهى التى تؤشر على اتجاهات مستقبل أفضل. وبصراحة فإن مصر تستحق ما هو أفضل بكثير من “التخمين” أو “الحدس” أو الاعتماد على الذكاء الشخصي؛ هى تحتاج المعلومات الدقيقة عن حالها وأحوالها. وكما أن الطبيب لا يستطيع أن يشخص المرض أو الأمراض، مزمنة كانت أو غير مزمنة، دون معلومات، ليس فقط عن درجة الحرارة وقياس الضغط أو عدد دقات القلب؛ وإنما يطلب رنينا مغناطيسيا، ومسحا ذريا، وأشعة مقطعية، و تحليلات للدم والبول والنخاع الشوكي؛ كذلك فى الأمم الحديثة فإن الكشف يقتضى معلومات لا تقل فى كثرتها وشمولها عما يجرى على الإنسان، وتحتاج ما لا يقل عنها فى دقتها، والإحصاء هو ما يقوم بمثل هذه المهمة التى على الساسة تحليلها، واستخلاص المعرفة بالحال منها. ومثل ذلك يجرى فى دول أخرى طوال الوقت، و أكثر الدول تقدما هى تلك الدول التى تعرف عن نفسها أكثر، وفى ٣ مارس الحالى نشر “آلان بروبي” فى نشرة “بروكينجز” مقالا بعنوان “ثلاث خرائط للاقتصاديات المحلية فى الولايات المتحدة” يسهم بها فى النقاش العام الحالى فى الدولة بين إدارتين (أوباما وترامب) والمدى الذى وصل إليه الأمريكيون فى الخروج من الأزمة الاقتصادية التى بدأت فى خريف ٢٠٠٨ والتى لا تزال بعضا من آثارها باقية. والنظرة السريعة والإجمالية تقول إن المجتمع الأمريكى خرج من الأزمة، ولكن مثل هذا الاستنتاج ليس كافيا، فالخروج له درجات، والرخاء له ظلال، والعدل له مراتب. ومن هنا تحديدا تأتى فكرة ضرورة وجود ثلاث خرائط للولايات المتحدة لكى تتقصى حقيقة الأوضاع فى الدولة وتضعها أمام النظام الجديد.
الخريطة الأولى تقليدية وهى تنظر فى معدل النمو الاقتصادى فى الناتج المحلى ومدى سرعته واقترابه من المتوسطات العامة للاقتصاد الأمريكى والتى كانت موجودة قبل الأزمة. الخريطة تقول إن المناطق التى كانت أكثر تضررا من الأزمة فى الجنوب الغربى والشرقى انتعشت وعادت إلى معدلاتها الطبيعية؛ أما المناطق التى كانت أكثر سرعة وفاق انتعاشها ما كانت عليه فهى تلك التى لديها تقدم تكنولوجى كثيف على المحيط الباسيفيكى (كاليفورنيا وواشنطن الولاية)، وتلك الموجودة فى حزام الطاقة (تكساس وأوكلاهوما). الخريطة الثانية لا تكتفى بمعدل النمو، وإنما بنوعيته، مقاس بالزيادة فى الإنتاجية ومتوسط الدخل أو ما يمكن وصفه “بالرخاء” حيث تزايدت الدخول الأقل بسرعة أكبر من الدخول الأعلي، وكذلك كانت الإنتاجية ديناميكيتها عالية كما فى وسط الغرب الأمريكي. الخريطة الثالثة ربما تكون أكثر الخرائط أهمية لأنها ترتبط بمدى شمول النمو من ناحية لقطاعات مختلفة من المجتمع، ومدى تأثيره على الاقتصاديات المحلية بحيث يحمل الانتعاش قوة دفع كبيرة تغير من حياة الناس.
تطبيق الخرائط الثلاث على الولايات الأمريكية ينتج صورة صريحة للحالة الاقتصادية الأمريكية؛ وربما نحتاج استخلاص هذه الخرائط أيضا فى الحالة المصرية لكى يكون لدينا صورة واقعية عن مصر يمكن عن طريقها التعرف على المدى الذى وصلنا إليه، والمدى الذى نريد الوصول إليه، فى الخروج من الأزمة الاقتصادية التى ترتبت على عهد الثورات. للوهلة الأولى وطبقا لإحصائيات الجهاز المركزى للتعبئة والإحصاء فإن مصر ليست منقسمة طبقيا بقدر ما هى منقسمة إقليميا بين الشمال والجنوب، واجتماعيا بين الريف والحضر والبادية. ورغم أن ذلك بالغ الأهمية، ويدفع فى اتجاه تنمية الصعيد الذى توجد فيه أكثر الحواضر تخلفا، وأكثر الريف فقرا، فإنه لا يقول لنا الكثير عن المناطق الواعدة فى مصر والأكثر ديناميكية وشمولا. الخرائط الثلاث سوف تعطينا القدرة على تبين مناطق الفرصة، وقاطرات التغيير حتى فى داخل المحافظات الأكثر فقرا ولمن يهمه الأمر فإن مثل هذه المتغيرات لها نتائج سياسية. فقد لفت نظرى فى واحدة من المقالات التى علقت على نتائج الانتخابات الأمريكية الأخيرة، والتى أشرنا لها فى مقال سابق، وكتبها مارك مورو و سيفان ليو الباحثان فى مؤسسة بروكينجز، أنهما لفتا النظر إلى تقسيم جديد لأمريكا بين الأمريكيين أصحاب الإنتاجية العالية، وهؤلاء من أصحاب الإنتاجية المنخفضة. الإنتاجية هنا محسوبة على أساس النسبة من الناتج المحلى الإجمالي؛ وهنا فقد وجد الباحثان أن أقل من ٥٠٠ مقاطعة (الولايات المتحدة مقسمة إلى ولايات وهذه مقسمة إلى مقاطعات) انتخبوا هيلارى كلينتون يسهمون بنسبة ٦٤٪ من الناتج المحلى الأمريكي، وأكثر من ٢٦٠٠ مقاطعة انتخبت دونالد ترامب يقدمون ٣٦٪ منه فقط. وبغض النظر عن نتيجة الانتخابات، وعما إذا كان الأقل إنتاجية فاز على الأعلى إنتاجية، فإن المعلومات التاريخية تقول لنا إن هذه ليست المرة الأولى التى ابتعد فيها التصويت عن الإنتاجية. ففى انتخابات عام ٢٠٠٠ حصد أل جور الفوز فى ٦٥٩ مقاطعة قدمت ٥٤٪ من الناتج المحلى الإجمالي، بينما الفائز جورج بوش الابن فقد فاز فى ٢٣٩٧ مقاطعة قدمت ٤٦٪ من الناتج المحلي. والاستنتاج هنا أن الأعلى إنتاجية عادة ما يكون أكثر ميلا لليبرالية والانفتاح والتقدم؛ أما الأقل إنتاجية فإنه يكون أقرب إلى المحافظة والتقليدية والانغلاق. وبالمعايير المصرية فإن الأكثر إنتاجية هو الأقرب لمفاهيم الدولة المدنية الدستورية، بينما الأقل إنتاجية فإنه الأكثر تعرضا وانكشافا للتيارات المتطرفة.
وبالتأكيد فإن مصر ليست مثل الولايات المتحدة، ومن هنا فإن القياس يجرى مع الفارق كما يقال، ولكن الرسالة تظل واحدة أن المعلومات تجعلنا نرى مصر بكل دقائقها؛ وعندما نربط معلوماتها فإن المعرفة بها تصير أفضل، وفى كل الأحوال تصبح السياسات أكثر حكمة وسدادا أو هكذا ما ينبغى أن يكون عليه الحال.