تعقد بعد أيام قليلة القمة العربية الدورية فى عمان, ولا أدرى هل مازال الكثيرون يتطلعون إليها بالأمل فى أن تقدم استجابات سليمة للتحديات الجسيمة الماثلة أمام الأمة العربية, أم أن الثقة فى مؤسسة القمة العربية قد تبخرت بعد أن توالى عقدها دون أن تُفلح فى تحقيق النقلة النوعية المطلوبة فى الأوضاع العربية ؟
فقد ظهرت فكرة القمة فى العمل العربى المشترك لمواجهة التهديدات المنذرة بخطر جسيم كما حدث فى عقد أول قمة فى أنشاص 1946 بعد أن وصل الخطر الصهيونى على فلسطين إلى ذروته، وعلى الرغم من أن القمة قد اتخذت قرارات جادة وجيدة إلا أن الأداء فى التنفيذ كان سيئاً فكانت الهزيمة العربية الأولى فى 1948 ، غير أن القمة التالية التى دعا إليها الرئيس عبد الناصر فى القاهرة فى يناير 1964, ثم قمة الإسكندرية فى سبتمبر من السنة نفسها تمكنتا من إحداث نقلة نوعية فى العمل العربى المشترك أولاً بتأسيس القيادة العربية المشتركة لمواجهة احتمالات الصدام مع إسرائيل بسبب مشروعاتها لتحويل مجرى نهر الأردن, وثانياً بتأسيس الكيانية الفلسطينية ممثلة فى منظمة التحرير والتى مثلت نقلة نوعية فى النضال الفلسطينى ، وبعد هزيمة 1967 كانت القمة العربية فى الخرطوم علامة فارقة فى وضع استراتيجية للمواجهة السياسية والعسكرية لإسرائيل وكذلك تقديم الدعم المالى المطلوب لإعادة البناء العسكرى فى دول المواجهة ، ثم استطاعت القمة العاجلة التى دعا إليها عبد الناصر فى سبتمبر 1970 أن توقف نزيف الدم بين الفلسطينيين والسلطة الأردنية ، وهكذا اكتسبت القمم العربية ثقة قطاعات واسعة من الشارع العربى وكذلك النخب العربية فى أنها قادرة على المواجهة الفاعلة للتحديات وإنقاذ الأمة من المخاطر التى تتهددها.
غير أن فاعلية القمم العربية بدأت تخفت بالتدريج مع الانقسامات والاستقطابات العربية سواء بسبب السلام المصرى - الإسرائيلى اعتباراً من النصف الثانى من سبعينيات القرن الماضى أو الغزو العراقى للكويت فى 1990وكذلك مع تفاقم الاختراق الخارجى للنظام العربى بحيث أصبحت لغة قراراتها بعيدة عن المعنى الحقيقى للقرار، فهى مثلاً تؤكد أهمية التضامن العربى لكنها لا تتخذ إجراءات عملية لتحقيقه أو تتمنى على أطراف صراعٍ عربى ما أن تتوصل إلى اتفاق فيما بينها دون أن تقرر خطوات محددة لذلك وتشدد على مركزية القضية الفلسطينية لكنها تدعو الآخرين كمجلس الأمن والقوى الكبرى إلى تحمل مسئولياتهم ! وهكذا ، وحتى عندما كانت تتخذ قرارات لها معنى فإنها لم تكن تأخذ طريقها للتنفيذ ، وعلى سبيل المثال فإن «مبادرة فاس» 1982 ظلت على «الطاولة» عشرين عاماً حتى حلت محلها المبادرة العربية التى تبنتها قمة بيروت 2002 ومرت عليها حتى الآن خمس عشرة سنة دون حراك ، وبسبب عدم تنفيذ القرارات فإنها صارت أحياناً وفى قضايا «مزمنة» معينة تتكرر حرفياً أو بطريقة شبه حرفية عبر القمم، فهل تخرج قمة عمان عن هذا المنوال ؟ فى الواقع أنه من الصعوبة بمكان تصور ذلك فالوضع العربى مثقل بتحديات ومخاطر لا حدود لها وعلى رأسها تهديد كيان الدولة الوطنية العربية فى عديد من البلدان العربية بحيث انكفأت هذه البلدان على ذاتها دفاعاً عن وحدتها وتماسكها, والعلاقات البينية العربية تعانى استقطابات تمنع تحقيق توافق حقيقى وفاعل بين الدول العربية، والإرهاب ينشب أظفاره فى الجسد العربى على نحو غير مسبوق والتدخل الخارجى فى الشئون العربية بلغ مداه حتى خرج القرار فى الشأن العربى فى قضايا مهمة تماماً من الأيدى العربية كما يتضح بجلاء فى الحالة السورية.
يتمنى المرء بطبيعة الحال أن تخرج القمة بنتائج مشجعة تضع العمل العربى المشترك على بداية طريق الفعل، خاصة أنها تُعقد هذه المرة فى ظل الدبلوماسية الأردنية التوافقية النشيطة كما أن التوقعات تشير إلى حضور قيادى أعلى مستوى من سابقتها ربما يصل إلى أكثر من الضعف، غير أن فاعلية القمة تتطلب قرارات جريئة وقوية فى قضايا الصراعات المشتعلة التى تدمر قدرات النظام العربى شيئاً فشيئاً ، ولا يمكن أن يتحقق هذا الإنجاز دون مبادرة عربية كبرى لوقف إطلاق النار فى هذه الصراعات وتثبيته تحت إشراف دولى وإجراء انتخابات ديمقراطية وإعادة الإعمار، وكذلك وقف تدخلات الدول العربية فى شئون بعضها البعض لأن هذه التدخلات مسئولة عن عسكرة الانتفاضات التى تمت ومن ثم جلبت مزيداً من التدخلات الخارجية فيها، وليست مصادفة أن البلدين اللذين انتصرت فيهما هذه الانتفاضات بسلاسة نسبية هما البلدان اللذان لم تتم عسكرة الانتفاضات فيهما، ومن ناحية ثانية يتعين على القمة أن تضع السبل الكفيلة باسترداد القرار العربى من أيدى القوى الخارجية التى باتت تنفرد به فى بعض الحالات كما رأينا، كذلك آن الأوان لمواجهة التغول الإسرائيلي على حقوقنا، فمن الإصرار على يهودية الدولة الصهيونية وعاصمتها القدس الموحدة إلى الانتشار السرطانى للاستيطان إلى رفض حل الدولتين إلى اعتبار الجولان السورية جزءاً من أرض إسرائيل ، وأخيراً وليس آخراً مواجهة الأفكار المضطربة المشوشة للرئيس الأمريكى الجديد من حديث تارة عن نقل السفارة الأمريكية إلى القدس وتأييد الاستيطان ثم تهدئة لنبرة الحديث وتارة أخرى عن أنه لا يأبه بحل الدولة أو الدولتين مادام قد اتفق الطرفان وتارة ثالثة عن مؤتمر ثلاثى يجمعه مع نيتانياهو وعباس أو مؤتمر إقليمى يتضمن «صفقة كبرى» قد تكون فكرته الجهنمية عن حلف عربى سنى إسرائيلى يواجه الإرهاب الإيرانى ، وكلها قضايا تتطلب المواجهة الحقيقية لها شروط لا تبدو سانحة فى الأفق القريب .