المساء
محمد جبريل
اغتيال الخُضرة!
أول ما حرص عليه البارون إمبان - عند إنشاء حي مصر الجديدة - أن تتقارب نسبة البنايات والحدائق. تختلف الضاحية - بالخضرة والتشجير - عن القاهرة وما تعانيه في توالي عصورها من الزحام والشوارع الضيقة والتكدس السكاني. وحين اتسع الحي - فيما بعد - وأضيف إليه حيان هما النزهة ومدينة نصر. كان شرط الموافقة علي البناء تخصيص نسبة للحديقة. أظن أنها 40% من مجموع مساحة الأرض. وحتي يصبح الحي سكانيا بحق وحقيق فقد خلت الطوابق الأرضية في معظم الشوارع الجانبية من محال الخدمات.
كالعادة. واتساقا مع الفساد الذي ارتبط - للأسف - بالمحليات. فقد بدأت الثغرات تنفذ إلي شروط البناء. تحول الكثير من الطوابق التحتية إلي دكاكين. وشغلت الدكاكين كذلك مساحات الفراغ التي تضمنتها الخرائط. حتي البدرومات التي نصت العقود علي أن تكون جراجات للسيارات. تحولت إلي سوبر ماركت ومخازن.
لعل الخشية من أن تلغي التصرفات المغايرة فكرة الحي "الصحي". هي التي أملت علي الأحياء أن تخصص مساحات للخضرة بين البنايات. وفي أطرافها.
المثل الذي يحضرني حديقتان في شارع سليمان عزمي بالنزهة. ألغيت الحديقة الأولي بداية بإنشاء فرن في منتصفها. ووافق السكان بالفعل علي إنشاء مسجد في جزء من المساحة المتبقية. لكن الهدف من إنشاء الحديقة تلاشي بعد أن بنيت في بقية المساحة مدرسة خاصة لا أعرف كيف حصلت علي تراخيص البناء. بالإضافة إلي مستوصف أغلق - فيما بعد - أبوابه!
ظلت الحديقة الثانية المطلة علي شارع عبدالحميد بدوي رئة وحيدة. معطوبة. بتأثير الإهمال المتعمد من رئاسة حي النزهة. كأنهم يعدون لتكرار ما حدث في الحديقة الأولي.
عرض الأهالي علي رئاسة الحي أن يدفعوا مقابلا شهريا لتسترد الرئة الوحيدة عافيتها. وتعود - كما كانت - متنفسا لأبناء المنطقة. لكن رئاسة الحي اعتذرت عن قبول العرض.
التطورات تشي - حتي الآن - بما عانته الحديقة الأولي. حل الموات علي الأشجار والخضرة. ونزعت المقاعد الرخامية. وسرقت الحنفيات. وأطفئت أعمدة النور. وصارت الحديقة موضعا للقاءات المدمنين. وللسرقات المستترة بالظلمة للمارة والسيارات. لم يعد إلا أن ينتظر السكان آلات الحفر. تلتهم الخضرة التي كانت جزءا من دواعي سكني البنايات. لتحل بدلا منها صفوف خرسانية جديدة. من السهل إنشاؤها في الصحراء الممتدة.
إذا ظل حي النزهة علي موقفه المريب من هذه الحديقة. فإن مصيرها ينتظر احتمالا وحيدا.
أرجو أن تكون هذه الكلمات بلاغا ضد رئاسة الحي. حتي لا يتحول اغتيال الخضرة إلي سياسة ممنهجة. أداتها الأدراج المفتوحة!
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف