د/ شوقى علام
مذهب «المصوِّبة» إبداع فكرى وتوسعة تشريعية
يستلفت نظر أى متابع لواقعنا الفكرى والعملى المعاصر ميل كثير من الناس إلى التمايز عن غيرهم، بل يظهر بشدة حرص بعضهم على بث بذور التفرد،
وتعظيم الجفاء بين الناس، فى حين أن الأمة أحوج ما تكون إلى التماس الجذور المشتركة التى يتحقق بها المحافظة على الوحدة والتكاتف بين الأمة.
إن احترام الاختلاف ومراعاة التنوع فى الأفكار والأشياء والأشخاص والأحوال هو ما جرى عليه عمل الأمة عبر تاريخها؛ حيث انطلق من فهم دقيق وعمل مستقيم مؤسس على مقاصد الإسلام الجليلة وأهدافه العليا، التى ترسخ عوامل ومظاهر انسجام الأمة فى نسيج متكامل.
وانطلاقا من ذلك، أصَّل جمهور الأئمة الراسخين مبدأ تصويب المجتهدين الذى يقضى بأن كل مجتهد مصيب فى المسائل الاجتهادية الظنية، متى طلب الحق وكان أهلا للاجتهاد ولم يدخر وسعًا فى الاستنباط، وقد اهتم علماء المسلمين خاصة أئمة أصول الفقه بهذه القضية اهتمامًا بالغا؛ حيث درجوا على بحث حكم الاجتهاد وبيان الموقف من اختلاف المجتهدين وأصحاب المذاهب، وهل كلُّ مجتهدٍ مصيبٌ أم أن المصيب واحدٌ والباقين مخطئون؟ وبناء على ذلك سُمى من ذهب منهم إلى تصويب كل مجتهد بـ «المصوّبة»، فى حين سُمى مَن ذهب إلى أن الحق فى جهة واحدة بـ «الـمُخَطِّئة».
وبعيدًا عن سرد الأدلة ووجهة نظر كلا الطرفين، فإن تتبع أطرافها مع الموازنة بين الأدلة ينتهى بنا إلى أن قدرًا كبيرًا منها يُعَدُّ خلافًا نظريًّا محضًا، خاصة أن هناك حديثًا صحيحًا يُبيِّن الأمر ويرفع النزاع؛ فقد قال صلى الله عليه وسلم: «إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر».
لقد رفع هذا الحديث وغيره الحرج عن الأمة فى طلب الاجتهاد والحرص على استمرار بابه مفتوحًا، ورفْع التهيب عن البحث والنظر، وتوسعة حرية الفقيه فى الرأى والبعد عن العجلة والمبالغة فى الحكم بتخطئته، لأن المقصود بالصواب هو صواب العمل الذى يصلح لتأسيس التصرفات عليه، لا صواب مضمون الحكم باعتبار ما عند الله تعالي، فإنه أمر عسير جدًّا.
وهذا فهم دقيق قرَّره أئمة الأمة بعد تتبع موارد الشرع الشريف وتأمل مقاصده الكلية، ومن ثَمَّ صاغوا منهجًا واعيًا وأدبًا جمًّا عند التعامل مع المسائل الخلافية، وهو يتلخص فى ثلاث قواعد جامعة، وهي: (1) أن الخروج من الخلاف مستحب. (2) إنما ينكر المتفق عليه ولا ينكر المختلف فيه. (3) من ابتلى بشيء من المختلف فيه فله أن يقلد من أجاز، بل يضيفون إلى ذلك توضيح الفرق فى مسائل الخلاف بين الورع وبين الحلال والحرام، وأنه قد اتفقت كلمتهم على أن حد الورع أوسع من حد الحكم الفقهي؛ فإذا ترك المسلم شيئًا من المباح أو المسائل الخلافية تورُّعًا، فإنه ليس له إلزام غيره بذلك على سبيل الوجوب الشرعي؛ فيدخل فى باب تحريم الحلال، ولا أن يعامل الظنى المختلف فيه معاملة القطعى المجمَع عليه فيدخل فى الابتداع بتضييق ما وسَّعه الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم.
ولا ريب أن هذا يؤكد رحابة الفكر وسعة الصدر عند هؤلاء الأئمة رضى الله عنهم، ويؤكد أيضًا أن التشدد والتطرف لا يوجدان إلا مع ضيق الأفق والجهل بالأصول والقواعد التى قامت عليها الآراء الأخري، وتَقَصُّد مخالفة أعراف الناس وعاداتهم من أجل التمايز والتفرد، لا اتباع ما هو أرفق بأحوالهم وأوفق لأعرافهم وعاداتهم، بما ينتج عنه مفاسد جمة وأضرار جسيمة، تتصل بالجرأة على الكلام فى دين الله بغير علم، وبناء الأحكام الخطيرة على مقدمات فاسدة أو على كلام مجمل غير مفهوم، مع إساءة الظن بالناس، وتوسيع دائرة التكفير، وتأسيس ما تحصل به الفتنة فى الأمة بين أبناء الوطن وتفريق كلمتهم، وإباحة الدماء المصونة المعصومة بيقين.