«اللغة العربية وعالم المعرفة» ذلك هو العنوان الرئيسى للدورة الحادية والثمانين لمجمع اللغة العربية وبلغة أكثر بساطة: اللغة العربية لغة من لغات المستقبل كما يقول الاتحاد الأوروبي، فهى واحدة من ست لغات معترف بها دوليا، فكيف نفكر فى مستقبلها وحاضرها؟ وإذا كانت لغتنا الفصحى لغة عالمية ومحلية، فهل يمكننا أن نعيش بها يوميا.. أن نحب ونتزوج باللغة العربية، أن نمشى فى الأسواق ونتحدث بالفصحى؟
مع الشاعر فاروق شوشة عاشق لغتنا الجميلة وأمين عام مجمع اللغة العربية، سألته عن بحر الفصحى، وفى أحشائه الدر كامن، سألنا الغواص عن صدفاته، وكيف نصبح عشاقا للغة العربية؟
• العامية وتعلم الفصحى
قال: اللغة العربية وثروتها ذائبة فى العامية، بمعنى أن العامية تعد مدخلا لتعلم الفصحى بداية من التعليم المدرسي، فحصة اللغة العربية الآن فى المدرسة سجن للتعذيب يعانى فيه الطلبة من سوء تعليم اللغة وسوء مناهجها ومستوى المعلم الذى لم يتدرب على البدء بجماليات اللغة قبل التركيز على نحوها وإعرابها، فالقراءة هى المدخل الحقيقى لتعلم أى لغة فى العالم، وكلما زاد مستوى هذه القراءة المدرسية أو الحرة اقترب القارئ من اكتشاف القواعد اللغوية، ولدينا أمثلة هائلة من البسطاء غير المتعلمين الذين يستمعون لآيات القرآن الكريم ويزنون الكلام على ميزان الفصاحة بما عرفوا وتذوقوا من آياته.
• الكتابة بالفرانكو وقاموس «الروشنة»:
قلت له: انتشرت الكتابة بالفرانكو على صفحات التواصل الاجتماعى وفى كتابة الرسائل القصيرة على الموبايل وغيرها، بل أقبل الكثيرون على قراءة الروايات المكتوبة بالعامية دون غيرها، فما رأيك فى هذه الظواهر؟
قال: الكتابة بالفرانكو وما ظهر من قاموس «الروشنة»، والروايات المكتوبة بالعامية كلها مظاهر لعدم تعلم اللغة العربية، فنحن نحتاج لمنهج لتعلمها ولنصوص مختارة، ومناخ مدرسى لا ينفر منها.
• حصة التغريدات والموبايل:
قلت: وكيف تصبح حصة اللغة العربية نموذجية تحبب الطلاب والطالبات فى الفصحى؟
قال: ألا تصبح حصة الفصحى حصة المفعول المطلق! أى حصة البحث عن متاعب الإعراب ونواحى الصرف الدقيقة بل أريدها أن تصبح حصة التغريدات الجميلة، حصة الموبايل، وكتابة الرسائل القصيرة فيمكننا أن نقول للطلبة أن يكتبوا رسائل لأصدقائهم على الموبايل فى حصة اللغة العربية وأن نختار أجمل رسالة ونكافئ صاحبها، وهنا لن يكتب رسالته بالفرانكو ولا بالحروف الأجنبية بل سيكتبها بالفصحى ومن ثم تصبح عادة أصيلة، فيمارس اللغة العربية فى الحياة اليومية.
• أصعب النحو أيسره!
عاودنى السؤال المُلِّح، كيف نستخدم العامية فى تعلم الفصحى، فسألته من جديد.
قال: عندما يدرك الطالب عدم وجود مسافة كبيرة بين ما نتعلمه والواقع، وأن فى لغتنا العامية التى يستخدمها يوميا تكمن الفصحى ومعانيها، بل ألفاظها، وعلى سبيل المثال: يصعب درس المفعول المطلق فى حصة النحو على معظم الطلاب ولكننا يمكن أن نشرحه ببساطة العامية وبسهولة الاستخدام اليومى للعامية، فإذا قلنا: ضربته ضربا، فإن هذا هو المفعول المطلق المؤكد للفعل، وإذا قلت: ضربته ضربتين فهذا هو المفعول المطلق المبين للعدد، وإذا قلت: ضربته ضربة المنفعل! فهذا هو المبين للنوع.
تأملت أصعب درس فى النحو والإعراب لأقول لفاروق شوشة ما أيسره من درس، ابتسم وهو يقول مؤكدا: ثروة الفصحى ذائبة فى العامية وإذا أدرك الطفل أن ألفاظه العادية واستخدامه اليومى للغة هو بعينه الفصحى كأن يقول: «شاف ويشوف»، و«نط وينط».. سيشعر أنه لم ينتقل من لغة إلى لغة أخرى وهذا هو دور السياسة اللغوية أن تعمل على التقريب بين العامية واللغة الأم وهى اللغة الفصحى.
• عامية رباعيات صلاح جاهين!
سألته: وهل لدينا سياسة لغوية لتؤدى هذا الدور؟
قال: لدينا مزق من سياسات لغوية فنحن لا نعرف حتى الآن لماذا نعلم اللغة العربية، والبعض يجنح به الخيال ويتصور أن الهدف من ذلك أن يتكلم الناس فى البيوت والشوارع بالفصحى وهذا أمر خرافى لم يحدث من قبل ولن يحدث من بعد ولكن الهدف الحقيقى أن نتعلم القراءة والتفكير والكتابة وتذوق النصوص المكتوبة بهذه اللغة تذوقا فكريا وجماليا وبهذا نكون قد رسمنا معالم الطريق لتعلم اللغة العربية فالناس سيظلون يحبون ويتزوجون بالعامية ويتحركون فى الأسواق بالعامية وكل ما يطمح إليه واضع السياسة اللغوية هو العمل على تقريب المسافة بين العامية والفصحى الأم مع التركيز على العاميات ذات المستوى القريب إلى الفصحى، البعيدة عن الابتذال والسوقية، وأمامنا أمثلة عديدة مثل عامية صلاح جاهين وفؤاد حداد والأبنودى وسيد حجاب، وأنا شخصيا أهتز لنماذج جميلة من العامية وأغنيات رائعة بالعامية وأعتبرها رافدا مغذيا للفصحى مثل أغنيات رامى ورباعيات صلاح جاهين التى لم يكتب مثلها شاعر من شعراء الفصحى.
• ثروة الفصحى
أحببت أن أعرف أى الأغانى العامية تطرب شاعر لغتنا الجميلة، فقلت له أى أغنيات رامى تحبها؟
قال: «زرعت فى ظل ودادى غصن الأمل وانت رويته، وكل شيء فى الدنيا دى وافق هواك أنا حبيته».
فقلت له: أليس هناك أمل أن نحب باللغة العربية ونتزوج بها ونمشى بها فى الأسواق، أن تصبح لغة يومية؟
قال باسما: إذا حدث هذا فأرجو أن تدلينى عليه، العامية هى لغة الحياة اليومية وعلينا أن نحرص على ألا تكون سوقية أو مبتذلة.
قلت: كثيرا ما مررت على مقاه تصدح فيها أم كلثوم بقصائد «أغدا ألقاك» للهادى آدم و«هذه ليلتى» لجورج جرداق، و«الأطلال» لإبراهيم ناجي، فكيف لا نحب باللغة العربية؟!
قال باسما: بالتأكيد هناك من يتذوق اللغة العربية وفنونها التى قربتها الأغنية من الوجدان العام ولكن جمهرة الناس يرون أن العامية تعبر عنهم مما يجعلها مدخلا لتعلم الفصحى، خصوصا فى المراحل الأولى من التعليم.
• لغة العلم
استطرد يقول: ومن المهم أيضا أن نعرف لماذا نتعلم اللغة العربية؟ ومتى نبدأ فى تعليم اللغة الأجنبية؟ والأمر محل جدل بين التربويين، فهل يبدأ تعليم اللغة الأجنبية مع العربية؟ أم من الأفضل أن يتأخر إلى سن العاشرة بعد أن يتم تعلم اللغة العربية أولا، هل نعتمد تعليما أجنبيا فى مدارس لا تستخدم فيها اللغة العربية على الإطلاق؟! وأن نقيم جامعات بلغات أجنبية فنجد فى المستقبل شبابا ارتبط وجدانهم وارتبطت عقولهم بالثقافات الأجنبية، ألا يمزق هذا الهوية الوطنية؟
قلت: ولكن هذا النوع من التعليم يقبل عليه الناس بشكل كبير.
قال: الآباء والأمهات عيونهم على سوق العمل التى تطلب لغات أجنبية ولكن لابد من إعادة النظر فى هذا، وأن تكون لدينا سياسة لغوية تقيم وتفكر فى النتائج، وفى رأيى أن تعليم العلوم لابد أن يتم باللغة العربية، كما أن تعلم اللغات الأجنبية ضرورة عصرية، فلماذا لا يتم تعليم العلم باللغة العربية، فهذا لن يقضى على اللغات الأخرى، الأمران يمضيان معا.
قلت: متى سيحدث ذلك أن تكون الفصحى لغة لعالم المعرفة؟
قال: عندما تكون لنا مخترعاتنا، ومنتجاتنا فى مجال العلم فيكون من حقنا أن نسميها باللغة العربية، وعلى سبيل المثال: الإمارات تعلن الآن عن مسابقات لأول «مسبار» ستطلقه الإمارات إلى المريخ ويبحثون عن مسمى باللغة العربية، ستكون لنا اللغة العربية لغة علم عندما تكون لنا مخترعاتنا العلمية هذا هو الأساس.
• اللغة انتماء
استطرد: لنبدأ من أبسط الأشياء لاحترام لغتنا الأم لابد ألا تكون لافتات الفنادق والمؤسسات التجارية والمحلات ذات أسماء أجنبية، فهذا يشعر المواطن بالغربة، ولابد أن ندعم الحس الوطنى والقومى من خلال استخدام اللغة العربية ولدينا قانون منذ الخمسينيات ينص على أن تكون كل أسماء المحلات باللغة العربية، وإذا كان المحل تابعا لشركة عالمية يكتب اسمه باللغة العربية ثم باللغة الأجنبية على نفس اللافتة، ولكن تفعيل نصوص هذا القانون لم يتم، لابد أن ندعم كل عناصر الانتماء، التعليم الحقيقى الذى يربط بين الماضى والحاضر والمستقبل هو انتماء، الثقافة والآثار واللغة، ونهر النيل، والنماذج الناجحة من أبناء هذا الوطن، الفنون الشعبية والعمارة، كل هذه من عناصر الانتماء.
• تحريك الفكر اللغوى الراكد!
قلت: إلى متى تظل لغتنا الجميلة عاتبة علينا؟! «أيهجرنى قومى عفا الله عنهم/ إلى لغة لم تتصل بحياتي؟» كما قال الشاعر حافظ إبراهيم؟
قال: حافظ إبراهيم عندما كتب ذلك كان خائفا على اللغة العربية، ففى مطلع القرن العشرين برزت مظاهر الانفتاح على العصر، فظهرت بعض الكلمات الأجنبية فى ثنايا الموضوعات المكتوبة فى الصحف المصرية، فأحس حافظ إبراهيم بالقلق على اللغة الأم إلى درجة أنه قال: «فجاءت كثوب ضم سبعين رقعة/ ممزقة الألوان مختلفات».. ولكن رأى حافظ إبراهيم لم يكن صحيحا فنحن مع تطعيم اللغة العربية بالكلمات التى نحتاجها من أى لغة، ولو دخلت مئات الآلاف من الكلمات على اللغة العربية فإنها لن تغيِّر من طبيعتها فلابد من تبادل التلقيح بين اللغات لإكسابها مزيدا من الحيوية والقدرة على التعبير، وهذا التلقيح مهما بلغت نسبته لن يغيَّر من طبيعة اللغة ولا متنها ولا معجمها.
قلت: ومع ذلك فإن اللغة العربية من اللغات التى ستحكم العالم كما قلت لى.
قال: بالفعل، وحسب ما ذكره الاتحاد الأوروبى أن هناك لغات سوف تحكم العالم منها: الإنجليزية والصينية والإسبانية والعربية، والفرنسية، وأوصى بخصوص برامج تعليم اللغات بالتالى: بأن يتم تعليم اللغة القومية، ثم لغة أجنبية مختارة، كما لابد أن يتم تعليم لغة بينية من اللهجات المحلية، وأرى أن دراسة العامية سترفع من مستواها وتجعل الحوار ثريا بينها وبين اللغة العربية، لابد أن نفكر فى كل هذا فالفكر اللغوى لدينا راكد، وليس فيه تجديد أو إضافات ومعظمه ضائع فى قضايا تعليم النحو وتيسيره.
• أكبر معجم فى تاريخ اللغة العربية
سألته عن دور مجمع اللغة العربية فى تحريك الفكر اللغوى الراكد.
فقال: دور المجمع هو أكاديمية تخطيط ومواد قانونه مأخوذة من الأكاديمية الفرنسية وهى من أقدم مجامع اللغة فى التاريخ إذ تم إنشاؤها فى القرن السادس عشر الميلادى وأخذنا منها مواد قانون مجمعنا وهى تتبلور فى ضرورة الحفاظ على اللغة، وأن تكون وافية باحتياجات الناس، صالحة للتعبير عن العصر، وأن يكون فيها من المعاجم ما يشجع القارئ على القراءة ودراسة اللهجات للإفادة منها، ومجمع اللغة العربية هو أيضا جهاز تخطيط ينبه إلى الأخطار التى تتعرض لها اللغة ويصدر المعاجم، وقد أصدرنا معجم «الوسيط» ومعجم «الوجيز» وتوزعه وزارة التعليم على طلاب الإعدادية، وأهم ما نحاول إنجازه الآن المعجم الكبير، وهو أكبر معجم فى تاريخ اللغة العربية، وقد بدأ العمل فيه منذ خمسين عاما، وصدر منه تسعة أجزاء، ونريد إتمامه خلال السنوات الخمس القادمة، وقد خصصنا له أربع لجان من أعضاء وخبراء ومحررى المجمع لنضاعف الجهد، كما أننا نعد المعجم التاريخى وهو يتتبع دلالات الألفاظ منذ أول ظهورها وتطورها واختلاف دلالتها عبر العصور مع النصوص التى جاءت فيها على مدى التاريخ، وسيكون هذا التعاون مع اتحاد المجامع العربية.
سألته وهو صاحب الدواوين الشعرية العديدة ومنها: «أحبك حتى البكاء»، و«أبوابك شتى»، و«العودة إلى منبع النهر»، و«وجوه فى الذاكرة»، وأمين عام مجمع اللغة العربية منذ تسع سنوات، وكان عضوا فيه من عام 1999.
• كيف أصبحت عاشقا للغتنا الجميلة؟
قال: كنت محظوظا فقد أرسلنى أبى إلى كتاب القرية فى سن مبكرة، وقضيت فيه عامين أحفظ القرآن الكريم، والكتاب هو الذى وضع اللبنة الأولى فى علاقتى مع اللغة من خلال التعرف على لغة القرآن ثم أتيح لى أن أتعرف على الشعر من خلال قراءات فى مكتبة والدى لدواوين شعرية ومجلات ثم قراءات من خلال مكتبة المدرسة، وانعكس كل هذا على كتاباتى باللغة العربية فى حصة الإنشاء والتعبير واكتشفنى معلم اللغة العربية وشجعنى بهداياه لى من الكتب على القراء، فاللغة القرآنية من ناحية، والشعر من ناحية أخرى كانا الجناحين الأساسيين فى عشقى للتحليق مع هذه اللغة، ولكى نصنع عشاقا لها لابد أن نضمن لهم جوا محببا فى المدرسة، فلا تصبح حصة اللغة العربية دروسا فى النحو والإعراب، ولكن أن تكون انشغالا بالقراءات الجميلة التى تحفز الطلاب على قراءات أوسع.
تأملت وصفته فى عشق اللغة العربية، وأبيات حافظ إبراهيم «أنا البحر فى أحشائه الدر كامن/ فهل ساءلوا الغواص عن صدفاته؟».. وأنا أحلم أن نحب ونتزوج ونمشى فى الأسواق باللغة العربية وأن نصبح من عشاقها. •