د. حسام عقل
رداً على ( رحلة الدم ) : .. ثلاثة مسيحيين أنصفوا الفتح
أثار مقالي السابق حول رواية : " رحلة الدم / القتلة الأوائل " ل " إبراهيم عيسى " ، عاصفة خماسين هائلة و ردود أفعال لم أتوقعها _ أصدقكم القول _ من حيث دائرة التفاعل و التأثير ، و تكفل أنصار ( عيسى ) و مريدوه ، بإعداد ردود متباينة على مقالي ! و ليس ثمة أزمة في أن نتبادل الرأي العلمي و الرد التاريخي / الموضوعي المفيد ، و لكن الأزمة _ فيما أرى _ أن يصبح كتاب ( عيسى ) حالة لاهوتية مقدسة ، تتعالى على المساءلة ، وترى نفسها قرآنا ً أو إنجيلا ً أو توراة أو زبورا ً ، لا يتعين أن يقربها أحد ، أو يناقشها مخلوق ! ف ( عيسى ) ليس مؤرخا ً هذه واحدة ، و هو _ ثانيا ً _ لم يلتزم بالحقائق التاريخية ، التي تضمنتها المراجع المثبته في مستهل الكتاب ( خمسة عشر مرجعا ً ) ، و ثالثة الأثافي أن ( عيسى ) كتب " رحلة الدم " بما يشبه أن يكون ( ثأرا ً إيديولوجيا ً مبيتا ً ) تضمره شريحة من النخبة الثقافية المهيمنة تجاه حركة الفتح الإسلامي بوجه عام ، و الفتح الإسلامي لمصر بالخصوص ، و خرج كتاب عيسى منشورا ً حاقدا ً لهذا الثأر ( الموروث ) ، حيث صور المسلمين _ جميعا ً بشكل تقريبي _ ( قتلة ) بلا عقل أو ضمير ( كما يدل عنوان كتابه الفرعي ! )
و في مشهد من مشاهد الرواية يستدير " عبد الرحمن بن عديس " نحو " ابن ملجم " قائلا ً : " ..حتى الطباخون و السقاءون يملكون سيوفا ً و رماحا ً و خناجر ..! .." ( ص 62 ) بما يؤكد أن المسلمين جعلوا من آلة القتل _ في يد الجميع _ وسيلة وحيدة للتعامل مع العالم الخارجي ، فصبغوا كل شيء بالدم الحار المراق ! و في مشهد ثان ٍ يستدير ( سعد بن أبي وقاص ) إلى ( عمرو بن العاص ) قائلا ً : " ..هي أرضك إذن يا عمرو بن العاص ! ( يقصد مصر ) .." ( ص 379 ) و كأن القوم يتبادلون ضيعة خاصة ليس لأهلها أية حقوق ! و يتطور الأمر ، فيتنازع ( سعد ) و ( ابن مسعود ) الأسلاب و الغنائم _ بطريقة مقززة _ و يتبادلان شتما ً متبادلا ً _ كأنهما لصان يتقاتلان على كيس مسروقة ! _ حيث يقول سعد لابن مسعود بحدة : " ..فهل أنت إلا ابن مسعود عبد من هذيل ؟.." فيكيل له ابن مسعود الصاع صاعين حيث يرد : " ..أجل و الله إني ابن مسعود و إنك لابن حمنة ! .." ( ص 382 _ 383 ) و ليس في أية مراجع تاريخية مثل هذا السباب المتبادل بين الصحابيين ، فضلا ً عن أن الجمل الحوارية بوجه عام تدل على التدني الأخلاقي الذي لا يمكمن تحمله أو قبوله ! و في مشهد مجدد شديد الفجاجة ، يعنف ( ابن عديس ) ، الخليفة ( عثمان بن عفان ) بشأن استغلال ختمه في إصدار أوامر القتل ، حيث يقول له _ بعد أن سأله عن قضية الختم فقال : " لا أعرف ! " _ : " ..لا تعرف ؟! ..و ما الذي تعرفه ؟! تبريء نفسك من قرار قتلنا بأن أحدا ً خدعك و زور باسمك و كتب بخطك و ختم بختمك ، و الله إن هذا وحده يثبت أنهم يتلاعبون بك ..! " ( ص 586 ) فهل هذا هو ( عثمان ذو النورين ) الذي صورته المراجع و رسمه قلم المؤرخين الثقات ، أم طفح خيالي لذهنية حاقدة بلا حدود ؟! كل سطر من " رحلة الدم " كان يحمل حقدا ً سوداويا ً من هذا النمط ، و كل مفردة كانت تتربص متسلحة بسم ( الكوبرا ) ؟! و هي أجواء معبأة بضغينة ملتاثة لا يمكن أن تنتج تاريخا ً أو فنا ً ! فالتاريخ يفتقر إلى رصانة التوثيق و هدوئه ، و الفن يفتقر إلى التسامح و الأريحية و نبذ العنصرية و التعصب الطائفي أو الإيديولوجي المتهوس على النحو الذي استمتعنا معه بنصوص ( ساراماجو ) و ( باولو كويلو ) و ( ماركيز ) و رفاقهم ، و هي النصوص التي انفتحت لحب الإنسان و التغني بقيمته مهما تكن عقيدته أو ولاءاته !
أزمة عيسى أنه حاكم حالة لم يعرفها جيدا ً ، و سمح للوسواس الإيديولوجي الموتور أن يفسد الرؤية و يلوي ذراع الحقائق بفجاجة ! لم تكن نظرة عيسى للإسلام _ تاريخا ً و رموزا ً _ نظرة ( من الداخل ) بل كانت نظرة شديدة الفجاجة ( من الخارج ) ، لا تختلف عن نظرة ( مراسل أجنبي ) متعصب ، يكتب لصحيفة صفراء تنتمي إلى المد اليميني المتطرف الذي يعشش في مساحات واسعة من المشهد الأوروبي و الأمريكي الراهن ! و ربما سقت هذا الملحظ لأنني منشغل الآن بترجمة كتاب مهم للباحثين " كينيث كراج " KEnneth Cragg " و " مارستون سبايت " Marston Speight " بعنوان : " الإسلام من الداخل " ( Islam from within ) ( وادزورث / كاليفورنيا 1980 ) . و عنوان الكتاب يكاد أن يلخص _ بذكاء لافت _ أزمة الرصد لظواهر التاريخ الإسلامي و الثقافة الإسلامية ، حيث يحكم هذا الرصد رؤية ( الخارج ) لا ( الداخل ) ! كان كتاب ( رحلة الدم ) إطلالة ( من الخارج ) مشحونة بحقد قاتم متكتل تحول إلى نظارة سوداء تحجب أية رؤية و تنكر عن المسلمين أي منجز !
كان على ( عيسى ) ، و هو يرصد ظاهرة بحجم ظاهرة ( الفتح الإسلامي ) ، أن يتتلمذ على المفكرين الكبار ، الذين لم تتلوث أنفسهم بالضغائن أو الكراهية السوداء أو الحقد الإيديولوجي الطافح ، فلا يقرأ التاريخ ( على الهوية ) ليصبح المسلون مؤهلين للشر مهما فعلوا ، و أية مجموعة بشرية أخرى مؤهلة دوما ً لدور الضحية ! فهذا الانحياز يصنع هوسا ً لا تاريخا ً و يخلف نيرانا ً طائفية لافحة لا فهما ً أو تقييما ً !
كان في إمكان ( إبراهيم عيسى ) ، أن يتتلمذ على " جورجي زيدان " ( 1861 _ 1914 ) ، برغم أية ملاحظات على كتبه ، حيث أنصف " زيدان " حركة الفتوح عموما ً في رائعته : " فتاة غسان " ، ثم أنصف حركة الفتح في مصر تحديدا ً في رائعته الأخرى : " أرمانوسة المصرية " ، و كان زيدان المسيحي ، مشيدا ً بهذا الفتح ، و متلافيا ً لأي تدليس تورط فه غيره ! ( اخترت " أرمانوسة " لزيدان لأنها رواية استوحت التاريخ فنهجت نهج " عيسى " أو بالأدق نهج عيسى نفسه نهجها )
و أكبر تدليس مكشوف في كتاب ( عيسى ) ، أنه قام بالتعتيم التام للقاريء على حقيقة ما جرى قبل الفتح الإسلامي للمصريين على يد الرومان ، و لم يسمح للسؤال الجذري بأي امتداد : ماذا لو استمر خلفاء " دقلديانوس " بتحريك وتيرة القهر و التصفية و تضييق الخناق بهذه المتوالية العددية ضد المصريين ، و هي السمة التي لازمت الرومان الوثنيين المحتلين ، ثم امتدت ، بعد اعتناقهم المسيحية فواصلوا التصفية و التضييق بذات الغل الأسود لاختلاف مذهبهم ( الملكاني ) عن مذهب المصريين ( اليعقوبي ) ؟! أعني أن يطرح السؤال بهذا الوضوح : " ماذا كان ( قبل ) ؟ و ماذا حدث ( بعد ) ؟ " و لماذا تجنب ( عيسى ) المراجع المنصفة الأدق توثيقا ً مثل : ( فتوح مصر ) لابن عبد الحكم ، أو ( فتح العرب لمصر ) لألفريد بتلر ؟ إن تجنب ( عيسى ) _ أو غيره _ توصيف المشهد السابق على الفتح الإسلامي ، هو في تقديري ، أكبر عملية نصب تاريخي يتعرض لها القاريء لأن المصريين _ على مذبح المشانق الرومية الرهيبة _ كانوا في طريقهم للفناء التام لآخر رجل ، و كانت العصا الوحيدة التي وضعت في هذا الترس المجنون فأعاقته عن الدوران ، هي ( الفتح الإسلامي ) الذي أعاد المصريين الهاربين في الصعيد و أوقف آلة التصفية الكاملة الممنهجة المسكونة بثأرات طائفية و مذهبية متهوسة لا تعرف حدودا ً ! ( لم يشر " عيسى " في " رحلة الدم " إلى الاحتلال الرومي بربع كلمة ! )
و في عهد الاحتلال الفارسي للإسكندرية _ مثالا ً لا حصرا ً _ قتل الفرس " .. أمة عظيمة من النصارى و سبوا منهم سبيا ً لا يقع تحت حصر ، و ساعدهم اليهود في القتل و تخريب الكنائس " ( راجع " المقريزي " في " الخطط " ج 1 / ص 392 ) ، و يؤكد المؤرخ " قيورنيوس " .. أن اليهود اشتروا خمسة و ثلاثين ألفا ً من أسرى النصارى في مصر _ دققوا جيدا ً في العدد ! _ ل ( يمتعوا ) أنفسهم بتقتيلهم ، لا في سنة أو شهر ، بل في بضعة أيام ! .." ( راجع : " فتح العرب لمصر " ل " بتلر " ص 55 ) و إذا عدنا بالذاكرة إلى الوراء ، أعني بدايات الهيمنة الرومية على المقدرات المصرية ، لأعيانا العد و الإحصاء لأرقام الضحايا من البسطاء ، الذين سحقتهم _ موتا ً _ الجيوش و القيادات العسكرية الرومية المتهوسة ، فقد تضاعف القتلى جبالا ً في عهد " دقلديانوس " ( 245 _ 313 م ) حتى سمى الأقباط عصره صراحة ب " عصر الشهداء " ! فمن حمى المصريين آنذاك من جنون القتل الجماعي ؟ و لماذا لا يعلق فلاسفة ( الغبرة ) على هذا الهولوكست الصريح ؟! و لم يتوقف الأمر عند القتل الجماعي بل امتد لمحو ( التاريخ الثقافي ) لمصر _ و هو ما لم يفعله المسلمون و أتحدى أي مثقف مدع ٍ أن يثبت العكس ! _ حيث أمر القيصر " تيودور " عام 389 م بهدم عدد هائل من التماثيل المصرية و المعابد ، و كانت بعض المعابد من المتانة بحيث اكتفى بتشويهها لعجزه عن محوها ( راجع : " حضارة العرب " ل " جوستاف لوبون " ص 206 ) و لماذا لا يعقب بكوات إعادة قراءة التاريخ على مشهد العواصم المصرية " التي امتلأت شوارعها _ آنذاك _ بأشلاء القتلى من الأهالي الذين قذفهم الجنود الرومان في عرض الطريق .." ( راجع " تاريخ عمرو " / د حسن إبراهيم ص 57 ) و لماذا لا يعقب المدلسون على ما حدث لعشرات من رجال الكنيسة المصرية ، الذين طحن الاحتلال الرومي عظامهم تحت سن ترسه المجنون الأعمى ، على نحو ما حدث ل " ميناس " _ شقيق " بنيامين " _ ، حيث أوقد الروم المشاعل حوله و سلطوا نارها على جسمه ، فأخذ يحترق حتى سال الدهن من جانبيه على الأرض ، ثم خلعوا أسنانه ووضعوه في كيس مملوء رملا ً ، ثم طوحوا به في البحر ..! " ( " فتح العرب لمصر " / " بتلر " ص 163 ) هل كان بمقدور أحد أن يوقف هذا الجنون الدموي لو لم يظهر المسلمون في أفق مصر ؟! و هل كان لدى المصريين من القوة العسكرية ما يستطيعون أن يوقفوا به هذا الهوس الاحتلالي الرهيب لآلة عسكرية بالغة الضخامة ، مسلحة حتى الأسنان ؟! بوضوح كان الروم مصرين على سحق أكبر قدر من المجموعات البشرية لتخلو مصر لهم ( سلة غلال ) بلا بشر تقريبا ً ! و كان " المقوقس " _ بالتنسيق مع الروم _ مصرا ً على تقليص عدد المصريين _ بالتصفية الجسدية _ في أثناء عملية ( توحيد المذهب ) لتخلو مصر لمذهب ديني واحد بعينه ! و قد عبر ( جورجي زيدان ) عن هذه المحنة بتجسيد صيحة بنيامين لقومه : " ..إن ملك الروم قد انقطع و يتعين ( تلقي عمرو ) .." ( و معنى تلقي عمرو أي التضامن معه ) . و عبر ( زيدان ) عن المحنة نفسها بتجسيد صيحة ( بربارة ) ، متحدثة عن الروم : " .. لا بد لحكمهم من نهاية .." !
و إذا كان ( زيدان ) قد أنصف الفتح في " أرمانوسة المصرية " ، التي نشرها في ( الهلال ) في البداية على عشرين حلقة ، فإن " شارلس هنري " رئيس الكنيسة الإنجيلية في القاهرة ، قد جدد هذا الإنصاف التاريخي في رواية له بنفس العنوان ، صدرت عام 1897 بالإنجليزية ، و أنصح ( عيسى ) بقراءتها جيدا ً !
و عاود الناقد الكبير الراحل د ( غالي شكري ) إنصاف الفتح الإسلامي لمصر ، حين قال : " .. إن الإسلام قد حافظ في النهاية على الوجود القبطي ضمن النسيج المصري ، و هو أمر كان من شأنه إغناء مكونات الوطنية المصرية .." ( راجع : " الأقباط في وطن متغير " ص 8 ) .
و يبقى سؤال : هل ارتكب المسلمون عشر معشار هذه المذابح الجماعية / الممنهجة ، المصرة على تقليص العدد الديموجرافي / البشري للمصريين ، و لو بالذبح ؟! التاريخ المنصف يؤكد أن أية مظالم للمصريين في عهد المسلمين ، كانت ( فردية ) الطابع _ ضمن الحدود المعقولة _ و لم ترق َ أبدا ً لتصبح ذات ( صبغة جماعية ممنهجة ) . فقد أسس المسلمون ( الفسطاط ) ، و أعادوا القساوسة المطاردين في الصعيد _ و على رأسهم الأب " بنيامين " _ و سمحوا بحرية العبادة ، و أقاموا أنظمة قانونية لتثبيت رئيس الطائفة الدينية _ فيما يعرف بنظام ( التواقيع ) _ فلم يعد أحد يستخفي بمعتقده ! و أقام الفتح نظاما ً مؤسسيا ً قويا ً للدولة المصرية بتقسيم إداري منظم ، وصلت فيه الخدمات الأساسية إلى الحواضر الكبرى ، و إلى إحدى و ثلاثين ( كورة ريفية ) ( أي منطقة ريفية ) كانت تصلها المؤن و الخدمات و المرافق بانتظام ، و هو بالمناسبة ما لا يحدث الآن _ أكرر الآن ! _ حيث سقط الريف من الحسابات ! ! و كان المشرفون على هذه المناطق جميعا ً من القبط / أهل البلاد. كان المسلمون يتعاملون أساسا ً مع ( المصريين ) ، الذين وصفهم ( عبد الله بن عمرو ) ب " .. الأقرب رحما ً للعرب .." ( راجع " النجوم الزاهرة " ل " ابن تغري بردي " ج 1 / ص 29 ) و هذا التوصيف _ وحده _ كان كفيلا ً بسبك المصريين في العائلة الكبيرة دون أية تمايزات عرقية أو عنصرية .
و بقيت كلمة أخيرة ل ( إبراهيم عيسى ) بعيدا ً عن أي تشنج أو مزايدات : الثأر الإيديولوجي لا يصنع فنا ً بالتأكيد ، و الحقد العنصري الأسود ضد فئة أو تيار أو مجموعة بشرية ، لا ينتج تاريخا ً موثوقا ً به ، ولتكن مصر _ كما كانت دائما ً _ سفينة تبحر بمجدافين يمسك بأحدهما مسلم ، و يمسك بالمجداف الآخر مسيحي في شراكة وطنية رفيعة ، تبحر بالسفينة المسكينة نحو الحريات المدنية و العدالة الاجتماعية و العمل التنموي الراقي ، بعيدا ً عن نخبة عاجزة ، تصر على إيقاد النيران مجددا ً ، كلما أطفأناها !