مدبولي عثمان
مؤشـــــــــرات واقعيـــــــــــة للعجـــــــــز المائـــــــــي
النيل يجري في دماء كل مصري وفي دماء كل من اغترف منه. ولكنه يمثل محور حياة لكل من تربي علي شواطئه سواء كانت قري او مدنا . وقد أنعم الله علي بالنشأة في قرية منازلها وحقولها تقع علي النيل . وعلي شواطئه كنا نذاكر دروسنا خاصة في أوقات الصباح الباكر وأثناء نسمات العصاري . والتمشي بالقرب منه كانت نزهتنا الوحيدة ونزهة كل ضيوفنا .
وفي مياهه تعلمنا العوم منذ الصغر والعبور سباحة الي الشاطئ المقابل للرياح التوفيقي "البحر" كان بمثابة شهادة غير مكتوبة يعترف بها الجميع انك سباح ماهر. أما شهادة البطولة المطلقة في السباحة فكان يحصل عليها من يجرؤ علي الاستحمام في البحر الكبير "فرع دمياط" المشاطئ للحقول ويبعد عن منازل القرية عدة كيلومترات . وتعلق بالذاكرة الايام الكثيرة .خاصة في أجازة المدارس .التي كنا نقضي نهارها بالكامل من الصباح حتي المساء نستحم ونصطاد ثم نشوي ونأكل ما نصيده.
وحتي مشاجراتنا الصبيانية كانت تتم علي جسر النيل . فكل متخاصمين كانا يتواعدان علانية علي العراك قائلين ¢نتقابل علي الجسر¢ لانه كان مكانا بعيدا عن الاهالي وامكانية تدخلهم. وببراءة الصبيان كان كل متخاصم يحشد اصدقاءه المقربين دون ان يخبر اي واحد من الكبار "الاهل" حتي لا يتدخلوا للصلح ويمنعوا المواجهة المرتقبة قبل ان تبدأ. وكان طرفا المعركة يتسابقان للوصول الي نقطة المواجهة لان من يصل أولا يكون هو الأشجع . وهو عرف متوارث. وبمجرد وصول طرفي الخصومة تحمي المواجهة اللفظية . ثم يظهر العقلاء في كل طرف لتهدئة الاجواء والشروع في وساطة تنتهي دائما بالصلح بين الاثنين المتخاصمين . وبعد تعانقهما نعود الي القرية فريقا واحدا تعلو ضحكاتنا . كان الاهل في السابق يتدخلون لفض الشجار بين الاطفال .وكان يكفي رجل واحد من القرية أحيانا لا نعرفه لفض مشاجرة بين عشرات الاطفال . أما في أيامنا فبتدخل الاهل لنصرة الاطفال يتحول شجار الصغار الي معارك دامية بين الكبار.
أتحدث عن أيام كان المصريون صغارا وكبار. رجالا ونساء . حكاما ومحكومين . يحبون النيل ويقدرونه ويحترمونه . فكانت مياهه نقية نشرب منها ونستحم فيها . ونحرص علي نظافتها . فاثناء الاستحمام اعتدنا أن نخرج الي الشاطئ لنقضي حاجتنا ثم نعود للاستحمام لاننا تعلمنا ان قضاء الحاجة في المياه حرام . وأدركت قيمة مياه النيل أكثر أثناء فترة الخدمة العسكرية في الصحراء كضابط احتياط حيث كنا نحافظ علي كل قطرة مياه وكنت في أيام الأجازات أستحي أن اغمس قدمي في مياه النيل.
أيام كنا نتغني بالنيل ونغني له بكلمات وألحان راقية وأصوات شهيرة. فكلنا يتذكر اشهر مطربي مصر في ذلك الزمان عبد الحليم حافظ يشدو بكلمات سمير محجوب وألحان محمد الموجي قائلا: ¢ يا تبر سايـل بين شطين .. يـا حـلـو يـا اسمـر
يا نعمة من الخلاق يا نيل.. دي مـيتـك ترياق يا نيل
أما موسيقار الأجيال الراحل محمد عبد الوهاب لا يزال يشجينا صوته بقصيدة النهر الخالد للشاعر محمود حسن اسماعيل التي يقول فيها :
والناس في حبه سكاري هاموا علي شطه الرحيبِ
آهي علي سرك الرهيبِ وموجك التائه الغريبِ
يانيل يا ساحر الغيوب يا واهب الخلدِ للزمانِ
أيام كانت شواطئ النيل وكل فروعة مفتوحه . فرؤية مياهه حق للجميع الفقير قبل الغني . والضعيف قبل القوي . قبل ان يسطو عليها أصحاب النفوذ ويحولوها الي أندية خاصة بأعضائها فقط . وقبل ان يصادرها البلطجية ويحولوها الي فنادق ومقاه عائمة تلقي فيه بكل فضلاتها الصلبة والسائلة.
تذكرت كل ما سبق عندما كنت في زيارة صديق يقع منزله علي بعد مترين فقط من النيل وفوجئت بانحسار شديد في مياهه علي غير العادة. ورد الصديق علي دهشتي بكلمتين فقط "سد النهضة" وكانت لحظة واقعية فارقة تؤكد كذب بل وخيانة كل مسئول أو إعلامي صرح بأن سد النهضة الاثيوبي لن يؤثر علي حصة مصر من المياه.
تعاملنا باستهتار مع ملف مياه النيل من عام 1974 منذ بدأنا سياسة الانفتاح علي الغرب . واهملناه تماما مع بداية الثمانينيات من القرن الماضي. وتغافلنا عن تهديدات وزير المستعمرات البريطاني اللورد ملنر التي اطلقها عام 1900 وأوردها الكاتب الألماني إميل لودفيج كتابه القيم "النيل حياة نهر 1937" وقال فيها:¢ من المؤلم أن تكون كل مصلحة للمياه منتظمة ضرورية لحياة مصر معرضة دوما لبعض الأخطار ومن يدري أن إحدي الدول العظيمة أو إحدي الحكومات التي تساعدها أمة متمدنة لا تقوم ذات يوم بأعمال كبيرة علي النيل فتحول هذا الماء الضروري لمصر.. عن مصر¢.
استغاثة :
عيب يا وزارة الصحة أن يعاني مستشفي القناطر الخيرية الحكومي من نقص دائم في المصل الخاص بلدغات الثعبان وعضة الكلب رغم أنه يخدم مئات الآلاف من المرضي من محافظات القليوبية والمنوفية والجيزة.