الأهرام
د. هالة مصطفى
ليس بالناصرية وحدها
«منظومة الصحة متهاوية بسبب القرار الذى أصدره الرئيس جمال عبدالناصر بأن التعليم كالماء والهواء والصحة مجانية لكل فرد, فراح التعليم وراحت الصحة» هكذا جاء تصريح وزير الصحة د. أحمد عماد, الذى أثار موجة من الانتقادات الغاضبة, جاءت معظمها من أنصار التيار الناصرى, الذين بدورهم حولوا الأمر إلى معركة أيديولوجية للدفاع المطلق عن الحقبة الناصرية التى «لولاها لما كان هناك تعليم مُتاح للجميع, ولا نظام للتأمين الصحى» مُرجعين سبب التدهور الحالى فى هذين القطاعين إلى الاتجاه ناحية الاقتصاد الحر الذى بدأ منذ السبعينيات وما صاحبه من عمليات «خصخصة» للقطاع العام.

لا شك أن المجتمع كله استفاد من مجانية التعليم, التى كان أول من دعا اليها مفكر مصر العظيم طه حسين قبل ثورة 1952, وهذه حقيقة لا يُنكرها أحد, لكن الصحيح أيضا أن المجانية اليوم أصبحت ستارا لتدنى مستوى الخدمات العامة حتى أُفرغت من مضمونها. وبعيدا عن أسلوب «المخطئ والمصيب» فى هذه الأزمة, أو التراجع والاعتذار, فهناك ملاحظات أساسية تتجاوز حدود التراشق اللفظى والنزعات الحماسية التى طغت على هذا السجال.

أولا, أن معظم النقاشات العامة مازالت تغلب عليها الشعارات السياسية, يحركها حنين إلى ماض لا تعترف بانقضائه, فلا حديث موضوعيا عن واقع الحال يُفضى إلى حلول حقيقية لمشكلاتنا المزمنة, فإذا كان تصريح الوزير أظهره كمن يبحث عن «ذريعة» لتبرير إخفاق الحكومة أو عجزها عن توفير الخدمات الأساسية للمواطنين, فإن الطرف الآخر تصرف بمنطق «القبيلة» التى تنتفض دفاعا عن زعيمها لمجرد أن يُذكر اسمه فى محفل من المحافل, فتحوله إلى «تابو» لا يمكن الاقتراب منه, مع أن كل زعماء العالم يتعرضون للنقد السياسى سواء فى فترة حكمهم أو بعد انتهائها دون أن ينتقص ذلك من قدرِهم أو دورهم التاريخى, فشارل ديجول الذى يعتبره الفرنسيون الأب الروحى للجمهورية الخامسة أى مؤسس فرنسا الحديثة, والذى قاد بلاده إلى الاستقلال من الجيوش النازية أثناء الحرب العالمية الثانية, خرجت ضده مظاهرات عارمة فى الستينيات اعتراضا على بعض سياساته واضطر بعدها بعام للتنحى عن منصبه كرئيس للجمهورية بعد اجراء استفتاء أكد تدنى شعبيته.

ثانيا, الحقبة الناصرية هى مرحلة تطبيق الاشتراكية فى مصر, وبالتالى كان طبيعيا أن يكون وفاؤها بالاحتياجات الأساسية للمجتمع محوريا باعتباره مصدر شرعيتها الرئيسى, ولكن فى مقابله احتكرت الدولة مصادر الثروة والقرار دون شريك أو منافس, وكان طبيعيا أن تنجح فى البداية لتوافر هذه الثروة, ولكن لم يكن الحال ليستمر على نفس المنوال بحكم تكاثر الأعباء والنفقات العامة وتضخم الجهاز الإدارى وغياب معايير الكفاءة والمحاسبة والشفافية فى القطاع العام ومن ثم تراجع معدلات النمو الاقتصادى, وإلا لما انهارت التجارب الأخرى التى أخذت بهذا النمط فى أكبر الدول مثل الاتحاد السوفيتى وأوروبا الشرقية وحتى فى الصين. فالتجربة الناصرية فى النهاية هى وليدة عصرها كتجربة وطنية محلية كانت امتدادا لتجربة أو منظومة أوسع عالميا.

ثالثا, الربط التعسفى بين الدور الاجتماعى للدولة والنظام الاشتراكى تحديدا فيه كثير من المبالغة وعدم المنطقية. فأغلب الدول الرأسمالية حاليا تلتزم بهذا الدور ولا تعتبره اختياريا, فالرأسمالية بصورتها القديمة الجامدة, التى كانت ترفع الشعار الشهير «دعه يعمل دعه يمر» دون تدخل من الدولة, قد انتهت, لتُخلفها دولة الرفاه الاجتماعية, التى تعترف بقدر مناسب من تدخل الدولة فى توجيه الاقتصاد مقابل ضمانها مختلف أشكال الرعاية الاجتماعية لمواطنيها, من صحة وتعليم وخدمات عامة ومعاشات وإعانات بطالة ودرجة عالية من التوظيف وخلق فرص العمل وغيرها, فهناك مثلا تعليم إلزامى مجانى للجميع فى الدول الغربية سواء فى أمريكا أو أوروبا وكثير من دول القارة الأخيرة تأخذ بهذه المجانية إلى مرحلة التعليم الجامعى (فرنسا وألمانيا والدول الاسكندينافية) وهذا لا يحدُث فقط فى الغرب فالتجارب التنموية الناجحة التى حققت طفرة فى اقتصادياتها باعتماد النمط الرأسمالى تأخذ بنفس المفهوم وتلعب الدولة نفس الدور, كحال «النمور الآسيوية», التى كانت فى الأصل دولا فقيرة تعانى نقصا حادا فى مواردها الطبيعية (سنغافورة) وعانى بعضها الآخر حروبا أهلية طاحنة (كوريا الجنوبية), حذت فى البداية النموذج اليابانى ثم أصبحت هى ذاتها نموذجا يُحتذى.

رابعا, انطلاقا مما سبق, فإن التزام الدولة بدورها الاجتماعى لا يُناقش فى إطار السجالات الأيديولوجية لأنه لا خلاف عليه, وإنما من زاوية «الحقوق والمواطنة» التى تفرض على الدولة تحقيق العدالة الاجتماعية والمساواة بين جميع المواطنين فى الحصول على الخدمات العامة, بغض النظر عن طبيعة النظام السياسى, لذا فإن المواثيق والدساتير الحديثة أدرجت هذا الدور فى موادها, بدءا من الميثاق العالمى لحقوق الإنسان (المادة 22) إلى الدساتير الوطنية كما جاء فى الدستور المصرى فى (مادتى 18 و19) تأكيدا على مسئولية الدولة بهذا الخصوص.

خامسا, على الرغم من أن هذا الحديث يبدو حديثا فى الاقتصاد إلا أنه سياسى بامتياز. فاضطلاع الدولة بدورها الاجتماعى يرتبط بوجود رؤية شاملة لتحقيق التنمية تترجمها فى سياسات عامة سواء من خلال سياسة ضريبية تصاعدية أو كفاءة فى الإدارة وترشيد الموارد وإعادة تخصيص العوائد الاقتصادية على القطاعات الأكثر حيوية, إنها قضية أولويات بالدرجة الأولى لكيفية الإنفاق الحكومى. الدولة أيضا هى القادرة على إشراك القطاع الخاص معها بالنسبة والطريقة التى تراها لتحقيق تلك الأهداف.

لكل ذلك, لم يعد مقبولا أن تكتفى الدولة أو الحكومة بالبحث عن الأسباب التى أدت إلى تدهور حال الخدمات الاجتماعية, وفى مقدمتها الصحة والتعليم, لتصل إلى الحال الذى وصلت إليه الآن, ولا عن العهود السياسية المتسببة فيها من عهد ناصر مرورا بالسادات وصولا إلى مبارك, فهذه حقائق لم تعد فى حاجة إلى إثبات, مثلما لا يجوز الاستمرار فى ربطها بحقبة بعينها, فليس بالناصرية وحدها تتحقق المطالب الأساسية للمواطنين.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف