لم يكن أحد من المصريين يكاد يسمع بجهاز حماية المنافسة ومنع الممارسات الاحتكارية قبل الواقعة الشهيرة المرتبطة بإحالة عيسى حياتو الرئيس السابق للكاف إلى النيابة، فعلى الرغم من أن هذا الجهاز أنشئ فى عام 2005 أى قبل واقعة إحالة حياتو للنيابة باثنى عشر عاما إلا أن الأمر كان لابد أن يرتبط بالمستديرة الساحرة، حتى ينتبه المصريون إلى وجود الجهاز. بل إنه حتى بعد تداول اسم الجهاز فى وسائل الإعلام ظل ثمة خلط بينه وبين جهاز حماية المستهلك، ولئن كان من الصحيح أن الجهازين معا يهتمان بمصلحة المستهلك إلا أن زاوية الاهتمام تختلف، فجهاز حماية المستهلك معنى بجودة المنتج وسلامته أما جهاز حماية المنافسة فإنه يهتم بعدم تمكين جهة واحدة من الانفراد بالسوق وإملاء شروطها على المستهلك.
بدأت وقائع القصة فى صيف العام الماضى عندما اقترب موعد انتهاء العقد الذى أبرمه حياتو مع إحدى الشركات منذ عام 2008 لتسويق وبث مباريات كرة القدم. تحركت على الفور رئيسة الجهاز الدكتورة منى الجرف ودعت إلى اجتماع يجمعها برئيس الكاف مع كل من رئيس اتحاد الكرة المصرى ورئيس اتحاد الإذاعة والتليڤزيون ووزير الشباب باعتبارهم الأطراف المعنية مباشرة بالأمر. وكان هدف اللقاء هو التوصل إلى تنظيم التسويق والبث بشكل يضمن المنافسة ويحفظ مصلحة المشاهد المصرى والكاف معاً.
رد رئيس الكاف على رئيسة الجهاز بعد شهر ونصف الشهر وأعلمها أنه سيبحث الموضوع مع اللجنة التنفيذية فى جلستها القادمة. ثم فى نوڤمبر 2016 كانت المفاجأة عندما اتضح أن حياتو جدد العقد مع الشركة نفسها لمدة اثنتى عشر عاما لتصبح بذلك صاحبة الحق الحصرى فى تسويق ومن ثم بث مباريات كرة القدم داخل افريقيا وخارجها و بكل وسائل البث المتاحة الأرضية والفضائية والإلكترونية حتى عام 2028، بل تبين أن أمد العقد يمتد فعليا حتى عام 2036 بإعمال حق الشفعة. وعلى أثر الإعلان عن تجديد العقد تلقت رئيسة الجهاز شكوى من شركة مصرية تفيد بأنها سبق أن راسلت حياتو للحصول على حق البث بقيمة مليار ومائتى ألف دولار أى بما يزيد بمائتى ألف دولار عن القيمة التى تجدد بها العقد فعلا. وفِى خطوة لاحقة قامت الشركة التى تم التجديد لها ببيع حقها فى التسويق والبث لإحدى مكوناتها فبدأت فى فرض شروطها على المشاهد المصري، وكان ذلك فى وقت بالغ الحساسية مع اقتراب موعد مباريات كأس الأمم الافريقية، واختلط فى هذا الأمرالاقتصاد بالسياسة .
وجد الفريق الفنى للجهاز ورئيسته أنهما أمام حالة ممارسة احتكارية صريحة حيث تم إخراج الشركات الأخرى من المنافسة، وجرى ربط كل الحقوق المتصلة بالبث والتسويق فى حزمة واحدة وتم منحها لشركة واحدة دون أى مبررات فنية أو مالية ولمدة زمنية طويلة. وكان هذا الأمر يعنى فعليا إدامة هيمنة الشركة على السوق المصرية إلى ما شاء الله، فمن الذى سيمكنه منافستها بعد أن تكون قد لعبت فى الملعب بمفردها من 2008 حتى 2036؟. عرضت الدكتورة منى الجرف الموضوع على مجلس الإدارة فأثبت بإجماع الآراء (15عضوا) وجود مخالفة للقانون المنشئ للجهاز وأحال الأمر للنيابة التى حولته بدورها إلى المحكمة الاقتصادية فى شهر مارس الحالي.
وما بين إحالة الأمر للنيابة ووصول الأمر للقضاء تعرضت رئيسة الجهاز لحملة إعلامية ضارية استهدفتها شخصيا وبصفتها، شخصيا وُصفت منى الجرف بأنها محبة للظهور الإعلامى مع أن أحدا كما قلت لم يكن قد سمع بالجهاز فما بالنا برئيسته، ومع أن أحد مهامها فور التأكد من وقوع المخالفة القيام بما يسمى فى الممارسات التجارية بـــــ «تجريس المخالف». وبصفتها هوجمت لأن الكاف لا يخضع للقانون المصرى مع أنه يمارس نشاطه من أرض مصر، ولأن رئيس الكاف يتمتع بالحصانة الدبلوماسية مع أن الحصانة التى يتمتع بها الكاف فعليا هى لمقره لا لرئيسه. أما أخطر ما هوجمت الجرف منى بسببه فهو التخويف من تنفيذ حياتو تهديده بنقل مقر الاتحاد الافريقى من القاهرة لأديس أبابا.وواقع الأمر أن نقل الاتحاد عملية معقدة لا تحتاج مصر فى منعها إلا الحصول على ربع أصوات الجمعية العمومية للكاف، فهل تعجز مصر عن تأمين هذه النسبة من الأصوات بعد أكثر من ستين عاما من استضافة مقر الكاف، على أرضها؟.كانت الحملة جارحة ومحبطة وشرسة والآن بعد أن أحيلت القضية للمحكمة الاقتصادية ما يعنى قناعة النيابة بالشق الجنائى فى الموضوع، وبعد أن تعالت الأصوات التى تتحدث عن مخالفات أخرى تحوم حول تايكون الكاف فمن الذى سيخرج ليقول إن هناك شخصية عامة مصرية اغتيلت معنويا طيلة الشهور الماضية وحين تبين الحق لم يعتذر لها أحد؟
أختم بالقول إن منى الجرف التى تولت مسئولية الجهاز منذ عام 2012 يعود إليها الفضل فى كشف 78 % من مجمل المخالفات التى كشفها الجهاز منذ نشأته فى 2005، وآخر هذه المخالفات اثنتان، إحداهما مرتبطة بممارسات احتكارية لسبع شركات مسئولة عن توريد الأجهزة الطبية الخاصة بجراحات القلب والصدر للمستشفيات الجامعية بمحافظات الجمهورية، والأخرى مرتبطة بشركتين للأسمدة تتقاسمان السوق فيما بينهما. وأضيف أن هذه السيدة اعتبرتها مجلة فوربس العربية عام 2016 ثانى أقوى امرأة تأثيرا فى الاقتصاد المصرى ورقم 15 فى التأثير على مستوى اقتصاديات الشرق الأوسط. وأن منى الجرف رشحتها مصر فى عام 2014 لمنصب مديرة معهد البحوث والدراسات العربية أحد أقوى أجهزة العمل العربى المشترك داخل جامعة الدول العربية لكن خطوة واحدة لم تُتخذ لتفعيل هذا الترشيح.
بمناسبة عيد المرأة المصرية أحببت أن أهنئ نساء مصر بشكل مختلف أهنئهن بتقديم نموذج لامرأة قوية ومقاتلة، ولأنها كذلك فإنها حوربت بكل الشراسة الممكنة، لكن فى النهاية لا يصح إلا الصحيح.. فتحية للمرأة المصرية فى عيدها وتحية للدكتورة منى الجرف.