المساء
خيرية البشلاوى
الأم في هذا الزمان
مشهدان تكررا بنفس المضمون والتفاصيل في فيلمين روائيين أحدهما طويل والثاني قصير.. الاثنان لأم مصرية جلست في انتظار الابن الذي تركها بوعد العودة سريعاً ثم لم يعد ولن يعود أبداً. علي خلاف أسوأ الافتراضات وضد كل ما تفرضه حيلة الرحيم في علاقة الابن ــ الأم.
المشهد الأول رأيناه في فيلم "ساعة ونصف" للمخرج وائل أحسن ويعد من أفضل أفلام عام 2012 والثاني في عمل قصير بعنوان "هنا الزمان" للمخرج رامي الجابري 2015 المشهد الأول جسدته ببراعة الفنانة كريمة مختار كأحد أهم البورتريهات الخاصة لصورة الأم والمشهد الثاني قدمته الفنانة القديرة عواطف حلمي بإحساس عال وتعبير صادق ودموع نطقت بكل الألم.
الاثنتان تواجهان ما لم يخطر أبداً علي البال.. في الفيلم الذي تدور أحداثه داخل قطار في استحضار للحادثة المروعة لقطار العياط الذي احترق بمن فيه منذ سنوات يصحب الابن أمه ويتركها داخل إحدي عرباته ومعها ورقة مطوية نتصور في البداية أنها دليلها لو تأخر عليها وعندما يطول غيابه ويستبد بها القلق وتؤنب نفسها خشية أن يكون قد صدر منها ما يغضبه. يأخذ منها عامل القطار الورقة وتكون الصدمة التي تبكي هذا العامل نفسه.. فالمطلوب ممن يقرأها أن يصحب الأم إلي بيت للمسنين.. هكذا!!
نفس الأمر يتكرر مع الأم في الفيلم القصير.. السيدة المسنة التي جاءت من قريتها لرؤية بيت ابنها المتزوج وحفيده الذي أنجبه منذ سنة ونصف. وبعد أن يستقبلها الابن في محطة القطار يتركها علي "دكة" خشبية علي رصيف أحد الشوارع ومعها الورقة المطوية التي لا تعرف مضمونها وعندما يطول غيابه وينشف ريقها من شدة العطش والقلق بعد مرور اليوم يشفق عليها شاب من سكان العمارة المطلة علي الشارع.. ويحاول مساعدتها وبقراءته الورقة التي تركها لها الابن يفاجأ بأن المطلوب الذهاب بها إلي أقرب بيت للمسنين!!
ماذا جري في هذا الزمان؟!
الظروف الاجتماعية والاقتصادية التي عكستها حكايات الركاب داخل القطار تطول أكثر من أم وأكثر من علاقة مع الأبناء كلها تشير إلي أن العالم تغير وتراجع أخلاقياً وإنسانياً وأن مسألة عقوق الأبناء لم يعد حدثاً فردياً وإنما اقترب من الظاهرة لو أضفنا إلي هذين النموذجين الصورة الحية الواقعية التي قدمها برنامج "العاشرة مساء" لأمهات لم يحظين بزيارة أو مكالمة أو سؤال عليهن في عيد الأم وإحداهن لديها ستة أبناء ولا ترجو منهم سوي السؤال الذي يخفف من مشاعر الوحدة والعزلة في بيوت المسنين.
مرة ثانية ماذا جري؟! وما الذي أوصل حالات العقوق وعدم البر بالوالدين إلي هذه الحالة التعيسة في بلد "غارق" في مظاهر التدين!! سواء في البيوت أو الجوامع أو الشوارع أو خلال "رنات" التليفون وميكرفونات المحلات ولحي المصلين وانتشار نسبة غطاء الشعر علي أكثر من 80% من النساء المصريات؟!!
من خلال هذين المشهدين نقف أمام درك أسفل من السلوك الإنساني. وإسراف مخل في مشاعر الأنانية الذي أصبح يغلف سلوك بعض الأبناء.
علي أي حال لا أتصور أن نسبة العقوق وسط الأبناء في الأجيال الجديدة وصلت إلي مستوي مفزع. ولكن الفزع يطل وأنت تراقب الحالات الإنسانية التي عبر عنها صناع السينما ومعدو البرامج التليفزيونية مؤخراً.. لقد ظلت صورة الأم في الوجدان الجمعي للشعب المصري محاطة بهالة من الإجلال والقداسة. وعبرت عن ذلك الفنون المرئية والسمعية الجماهيرية وكذلك فعل الأدب المصري وكلنا يعرف صور "الألبوم" الفني الخاص بصور الأمهات علي امتداد تاريخ السينما.
وأعني الشخصيات التي جسدتها فردوس محمد وأمينة رزق وكريمة مختار وآخريات سجلن طبعتهن الخاصة عن هذه الشخصية.. ولكن ومنذ سنوات بدأت الصورة يصيبها الخلل مع اختلال المعايير داخل المجتمع وتدني القيم الحاكمة للعلاقات الأسرية وتأثير شهوة المال وضغوط الحياة فرأينا "أمهات في المنفي" وأمهات يجذبهن "الطوفان" أمام عقوق الأبناء ورأينا صورة للأم وعلاقتها مع الأبناء وقد تشوهت تماماً في فيلم "الريس عمر حرب" التي جسدتها غادة عبدالرازق.. لا أحد ينسي الست "أمينة" في ثلاثية نجيب محفوظ التي لعبتها آمال زايد في ذلك العصر البعيد في الربع الأول من القرن العشرين ولا صورة أمينة رزق في "بداية ونهاية" وحتي صورتها في "امبراطورية ميم" بعد أن تعلمت واحتلت المناصب والتي لعبتها فاتن حمامة.
نحتاج إلي تحديث لهذا الألبوم الخاص بالأم وعلاقتها بالأبناء يضم صوراً لأمهات الشهداء فما شاهدناه منهن علي الشاشة شيء رائع حتي ندرك أن الأم المصرية التي هي المثل والقدوة وأن الأبناء يذهبن للشهادة حماية لها وللأم الأكبر وأن الأسرة المصرية مازالت بخير.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف