المصريون
ربيع عبد الرؤوف الزواوي
من وحي السفر بالطائرة...
أحرص دائما أن أجلس بالطائرة في كرسي وسط بين كرسيين؛ لتتاح لي فرصة مجاورة اثنين لا واحد فقط... وفي الحديث معهما يكون من الخير عادة ما يفتح الله به...


ففي الطائرة يجلس بالقرب منك شخص أو اثنين يلامس جسدك جسده لساعتين أو ثلاث أو لعدة ساعات أحيانا... واستثمار هذه الفرصة كنز لا يقدر بثمن.


فكم من أحباب استقر الود والوصال بيننا بسبب رحلة سفر في طائرة.. وكم من نبيل صادفته، وكم من أفاضل كسبتهم في مثل هذه الرحلات...


ولأني أذهب للمطار عادة قبل موعد الإقلاع بوقت كاف، ولأن معي بطاقة (المسافر الدائم) على خطوط مصر للطيران، وبطاقة (الفرسان) على الخطوط السعودية... فيمكنني ذلك من اختيار الكرسي الذي أريد عادة...


ولأن الناس عادة يحبون الجلوس في كرسي بجوار النافذة، فأحجزه عادة ثم أعطيه لمن يجلس بجواري فيكون ذلك عربون محبة وأول مدخل لكسبه وفتح قناة اتصال معه...


وهو ما حدث أمس... إذ جلست بين اثنين؛ أما أحدهما فحسبت لأول وهلة أنه ليس مسلما أساسا... فقلت في نفسي هذه أثقل وأكبر... ومهمة ثقيلة فعلا... وكان على يميني.


وأما الآخر فجلس على يساري بجوار النافذة في الكرسي الذي آثرته به... فشكرني ثم جلس منطويا منزويا يرمي ببصره بعيدا إلى الأفق البعيد من نافذة الطائرة... وشكله يشي بوجود أحمال من الهموم تثقل كاهله.


فجلست أفكر في خطة لكل منهما أخترق بها عالمه الخاص واتقرب إليه ليبدأ تبادل الحديث بيننا بأريحية وانبساط.


وما إن استقرت الطائرة في السماء وعلت أصوات المتهامسين، وكثرت حركة الناس في طرقات الطائرة... إلا وشاهدت عجبا...


أما من ظننته ليس مسلما... فانطلق يتلو سورة البقرة بطلاقة دون خطأ أو تلعثم بصوت منخفض جميل، تأثرت به لدرجة البكاء...


واستمر في قراءته غير عابئ بما حوله... كل تركيزه فيما يتلوه... وأنا مصغ أسمع الآيات كأني أسمعها لأول مرة... فللنية الطيبة من هذا الرجل أثرها، وللمكان الذي في السماء أثره وجلاله، وللوقت قبل المغرب في آخر ساعة من اليوم أثره... وللعبادة وقت غفلة الناس مكانتها؛ إذ للعبادة في الهرج مكانة عظيمة... وأظن كل ذلك كان حاضرا...


فاحتقرت نفسي ورجعت معاتبا لها قابضا في غضب حبات مسبحتي... نادما على سوء ظني به... لائما نفسي على سطحية تفكيري وأخذي بظاهر الأمر وتأثري بهذا القشر الذي يغطينا، ويواري أحيانا ملامح الحقيقة وكوامن النفوس التي لا يعلمها إلا الله.


وكان هذا هو الدرس الأول...


وأما الآخر ذو النافذة المنزوي بنظر بعيد عبرها إلى الأفق... فعندما قدموا لنا وجبة الغداء... أخذ طعامه وتركه أمامه دون أن يأكل... وبعد أن فرغنا من الغداء الذي كان قبل المغرب بساعة ونصف تقريبا، وتم رفع الفوارغ من أمامنا... لم يأكل صاحبي إلى أن تم تنبيهنا بربط الأحزمة استعدادا للهبوط...


وبعد غروب الشمس التي كان يداعبنا شعاعها البرتقالي من نوافذ الطائرة بينما هي تقترب من الأرض، أقبل صاحبي على طعامه فاستخرج تمرات من جيبه وبدأ في تناول فطوره... فقد كان صائما.


وكان هذا هو الدرس الثاني...


الناس يا سادة صناديق مقفلة وأسرار مخبوءة... والخير الكامن في الناس تحجبه عنا أحيانا المظاهر، وتواريه عنا الملابس والأشباح... مع أن الجد كل الجد في النفوس والأروح.


فقد جلست بين هذين الفاضلين برغبة في نفعهما وإيصال كلمة طيبة إليهما، وبرغبة في تبليغ حق أو تصحيح خطأ... فعلماني، وأدباني، وذكراني...
فجزاهما الله خيرا...


نسأل الله أن يكثر من الصالحين...
وأن يبارك في شباب المسلمين...
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف