طه عبد العليم
مصر فى قمة عمََّان العربية
بعد ثلاثة أيام ستنعقد القمة العربية فى عمَّان، ولا أظنها قادرة على النجاح فى تجاوز المأزق العربى الراهن. وبين أبعاد المأزق أكتفى بالاشارة الى أنه بأيدى العرب قبل غيرهم نجح مخطط الفوضى الخلاقة. وهكذا، فقد تفاقم تفكك النظام الاقليمى العربى بتفكيك الدولة الوطنية العربية، وتعاظم تهديد الأمن الجماعى العربى بهدر الأمن الوطنى للدولة العربية، وتداعت أحلام التكامل الاقتصادى العربى بهدر فرص التصنيع العربى المشترك، وجرى تعميق الانقسام الفلسطينى بين السلطة الفلسطينية فى الضفة الغربية وإمارة حماس الإخوانية فى قطاع غزة.
ومع اخفاقات نظم عربية أهدرت ضرورات بناء دولة المواطنة؛ جرى- وبأيدى العرب قبل غيرهم- تقسيم السودان وتفجير العراق وتفكيك ليبيا وتخريب سوريا وتدمير اليمن. وزاد الطين بلة، كما تقول العرب، بانزلاق بعضهم الى شراك صراع سنى شيعى، لن يفيد منه سوى أعداء الطرفين. وبجانب العزلة النسبية للجزائر والمغرب عن قضايا المشرق العربى تواجه مصر ضغوطا عربية تتوهم تركيعها المستحيل. ورغم كل ما سبق، أسجل هنا ثلاث حقائق، تتصل بدور مصر العربى.
الحقيقة الأولى، أن مصر لا تملك ترف الانكفاء على الذات والعزلة عن محيطها الاقليمى، وهى حقيقة تاريخية استوعبها المصريون منذ غزو الهكسوس لمصر نحو عام 1730 ق. م؛ أى قبل نحو 3747 سنة!! فقبل هذا الغزو كانت الدولة الوسطي فى مصر ـ كما الدولة القديمة ـ عصر حضارة عظيمة ورقى إنسانى، حتى تسرب اليها ببطء وعلي مهل رعاة مغتصبون، ثم انقضوا عليها بجيش جرار، فسيطروا علي أرض الدلتا التي تفيض بالثراء، وعلي مصر الوسطي التي تنعم بأطيب الغلات، وهم من أسماهم المصريون »الهكسوس« أو الرعاة، والهمج والطاعون! حتى تحررت مصر علي يد أحمس الأول، قائد أول حركة تحرر وطني فى التاريخ. ودفاعا عن أمن مصر وحدودها، عرفت الأمة المصرية جديدا لم تعهده منذ فجر تاريخها، حيث خرجت من الحصار، الذي ضربته علي نفسها، الي محيطها الاقليمى. وتحت قيادة تحتمس الثالث، أول بطل عالمي في التاريخ، أسست مصر وثبتت دعائم أول إمبراطورية في التاريخ، امتدت من أعالي نهري دجلة والفرات شمالاً وحتي الشلال الرابع جنوباً.
والحقيقة الثانية، أن المصريين.. أمة مصرية؛ لكنها عربية أيضا؛ رغم أن تاريخ تعريب مصر لا يزيد طوله على نحو ربع تاريخها المكتوب كله, ولا يعادل سوي نحو ثلث تاريخها الفرعوني تقريبا! فقد بنى المصريون أول أمة في التاريخ؛ تجمعها وحدة الأصل واللغة والمصلحة منذ عصر الأسرات الفرعونية، وهو ما يعزز الفخر بالأصالة والعراقة والريادة والجدارة. لكن الحقيقة أيضا أن الأمة المصرية قد صارت عربية مع عصر الفتوحات العربية. ويقول جمال حمدان, الباحث في شخصية مصر والمؤمن بعروبة مصر: إنه إذا كان لابد من مقياس للعروبة, فليس كمية الدم العربي التي أضيفت, ولكنه كمية اللسان العربي التي استعيرت. ثم يستطرد: إن كل الغطاء البشري, الذي يغطي ما يعتبر الآن العالم العربي هو أساسا فرشة واحدة ومن جذر واحد, توزع مع عصر الجفاف وتطورت اللغات والألسن ما بين »سامي وحامي« والثابت المحقق أن اللغة المصرية القديمة, تشترك في أكثر من عشرة آلاف كلمة مع اللغة العربية! وقد أقام اليونان ثم الرومان بأعداد لا يستهان بها في مصر على مدى تسعة قرون, ومع ذلك لم تحدث لمصر أغرقة ولا رومنة. ولكن حين التقى العرب بالمصريين, لم يكن ذلك إلا لقاء أبناء عمومة. وهنا فان بيير روسي- الباحث الفرنسي في كتابه التاريخ الحقيقي للعرب- يلفت النظر إلى مغزى توقف التعريب عند حدود العالم العربي!
والحقيقة الثالثة، أن مصر لم تحمل سوى الخير للعرب، وتحملت مسئولية القيادة والريادة فعلا وليس قولا على مدى تاريخها منذ الفتح العربى. ففى عصرها الوسيط كانت بلدا مستقراً غنيا أمد الدولة العربية الاسلامية فى طور نشأتها بأسباب الغنى والقوة في حين أن الشرق كان مصدر متاعب لها، ومن مصر وبأموالها تمت فتوح المغرب وبمالها فتح الأندلس، حيث كانت مصنع السفن الحربية لأساطيل الخلافة الأموية، وبفضل هذه السفن والملاحين المصريين كسب المسلمون موقعة ذات الصوارى سنة 34 هـ وأُنتُزعت سيادة البحر المتوسط من أيدى البيزنطيين. وعندما تفككت وحدة الدولة الإسلامية خلال النصف الثانى من القرن الهجرى الثانى، بدأت مصر تتحول إلى قاعدة إسلامية كبرى، ثم صارت القطر الإسلامى الوحيد القائم على قدميه، وبفضلها نجا المشرق العربى من الصليبيين ثم نجا من المغول. وفى عصرها الحديث، كانت رائدة التحديث فى النصف الأول من القرن التاسع عشر، والمبادرة باعلاء قيم الوطنية والمواطنة مع ثورة 1881 بقيادة أحمد عرابى، ومنبر التنوير ومفجرة النضال من أجل الدستور والاستقلال مع ثورة 1919 بقيادة سعد زغلول، وقائدة التحرر الوطنى والتصنيع المستقل مع ثورة 1952 بقيادة جمال عبد الناصر. وبفضل ثورة 30 يونيو، التى صححت مسار ثورة 25 يناير، وتمكنت مصر تحت قيادة عبد الفتاح السيسى من إسقاط حكم جماعة الاخوان وحلفائها من تنظيمات الفاشية التكفيرية والارهابية وأسقطت مخطط تفكيكها أو تركيعها فى سياق مشروع الفوضى الخلاقة.
ولأن مصر تعرف قَدْرَها، وتدرك قدراتها الكامنة، ولا تتنكر لقيمها، فان عليها فى القمة العربية المرتقبة أن تطرح رؤيتها للخروج من المأزق العربى الراهن. وفى هذا السياق عليها أن تعلن وباستقامة ضرورات: بناء دولة المواطنة، وتجنب الصراع الطائفى، وعدم التدخل فى الشئون الداخلية، واحياء مبادرة السلام العربية خاصة اقامة الدولة الفلسطينية المستقلة فى حدود 1967، وكشف دور جماعة الإخوان والسلفية التكفيرية فى تفريخ الفكر الارهابى، وكشف المنافع المتبادلة من التعاون الاقتصادى العربى على طريق التكامل الصناعى والاقتصادى العربى.