الأهرام
محمد سلماوى
الكتالوج الموثق لمحمود سعيد.. هل يدخل مصر؟!
لا شك أنه الحدث الأهم هذا العام على صعيد الفن التشكيلى العربي، ذلك هو صدور أول موسوعة عالمية تقدم حصرا لأعمال فنان من الوطن العربى هو رائد الفن التشكيلى المصرى محمود سعيد (1898-1964)، فقد سعدت بحضور مناسبة إطلاق هذه الموسوعة فى دبي، باعتبارها أول موسوعة من نوعها تصدر عن فنان من منطقة الشرق الأوسط، وشرفت بأن قمت بتقديم الموسوعة للجمهور على منصة ضمت واضعى الموسوعة الخبيرة الفنية الفرنسية فاليرى ديدييه هس والباحث الفنى المصرى الدكتور حسام رشوان.

وقد جرت العادة أن يكون لكل فنان كبير ما يعرف باسم «كاتالوج ريزونيه»، وهو المرجع الرئيسى الذى يضم جميع أعماله ويتم الرجوع اليه لتقييم أى عمل من أعماله الفنية والتحقق من أصالته، وقد ترجم البعض هذا التعبير ترجمة حرفية فسماه »الكتالوج المسبب« وهو ما يوحى بمعان أخرى مغايرة تماما للمعنى المقصود، وربما كان أقرب تعبير فى اللغة العربية للمعنى المقصود هو ما تفضل به الناقد السينمائى الكبير سمير فريد فى مقال أخير له فى »المصرى اليوم« حول هذا الموضوع حيث سماه »الكتالوج الموثق«، ذلك أن مثل هذا العمل يقوم فى الأساس على البحث والتوثيق لكل أعمال الفنان، وهو ما نفتقده فى مصر والوطن العربى الى حد كبير، مما يعتبر نقصا جد خطير، فغياب التوثيق أولا يهدد بضياع بعض أعمال الفنان لأنه لم يتم توثيقها فى موسوعة رسمية، وثانيا هو يحول دون التقييم الحقيقى للفنان لأن النظرة الى أعماله فى غيبة بعضها تكون نظرة قاصرة وغير مكتملة، ثم هو ثالثا يفتح الباب على مصراعيه للتزوير ونسبة أعمال للفنان هى ليست له. ورغم الرصيد الهائل من الفن التشكيلى الحديث فى مصر منذ بداية القرن العشرين إلا أن عملية توثيق ذلك التراث كما يتم فى العالم كانت حتى الآن غائبة تماما، ومن هنا أهمية هذا الكتالوج.

إن الحركة التشكيلية فى مصر حركة عريقة تعود جذورها الى فنون مصر القديمة التى استلهم منها الفن الغربى بعض مدارسه الحديثة على ايدى جوجان وبيكاسو وغيرهما، وعادة ما يؤرخ لبدايتها بسنة 1908 وهو تاريخ انشاء كلية الفنون الجميلة فى القاهرة، وقد كان لمحمود مختار (1891-1934) الفضل فى احياء فن النحت المصرى الحديث باستلهامه لخطوط فن النحت المصرى القديم، أما محمود سعيد القاضى المنتمى للعائلة المالكة السابقة والذى ترك عمله بالمحاكم المختلطة ليتفرغ للفن، فقد بدأ عمله الفنى مجربا بعض المدارس الغربية الرائجة فى وقته وخاصة المدرسة التأثيرية، ورغم أنه برع فى ذلك وقدم بعض أجمع لوحاته بهذا الأسلوب، إلا أنه سرعان ما اتجه للبحث عن مدرسة محلية خالصة تعبر عن مصر التى تشير أعماله الى أنه أحبها حبا شديدا وكرس حياته لتخليد أبنائها من الطبقات الشعبية، كما أحب نيلها وريفها وصحراءها فنجح فى استخراج جمالياتهم الكامنة، وقد توصل محمود سعيد على الصعيد الفنى لاستنباط مدرسة فنية مصرية حديثة لم يسبقه اليها أحد، وقد دون محمود سعيد بدقة القاضى الذى يهتم بالتفاصيل كل لوحة رسمها فترك وراءه سجلا كاملا بأعماله كانت هى الأساس لهذا الكتالوج الموثق الذى أصدرته دار سكيرا الايطالية المتخصصة فى الكتب الفنية، وكما شرح لى الباحث المصرى الدكتور حسام رشوان، فقد رسم محمود سعيد بعض لوحاته أكثر من مرة لكنه بدقته المعهودة كان يشير فى سجلاته التى هى الآن فى حوزة الدكتور رشوان، إلا أن اللوحة الثانية «مكررة».

وقد تركز مجهود الدكتور حسام رشوان وفاليرى هس على البحث عن اللوحات المذكورة فى سجلات محمود سعيد وتصويرها وتوثيق تفاصيلها بما فى ذلك موضعها الحالي، واستغرق اعداد الموسوعة خمس سنوات، وتبلغ نحو ألف صفحة من الصور الملونة والمقالات النقدية مقسمة على جزءين من الحجم الكبير، حيث يضم الجزء الأول اللوحات الملونة التى يبلغ عددها 382 لوحة وتزيد صفحاته عن ال600 صفحة، أما الجزء الثانى فيضم 410 من الرسوم و238 وثيقة تتعلق باللوحات وتزيد صفحاته على الـ300 صفحة. وخلال عملية البحث والتوثيق تم اكتشاف بعض اللوحات التى لم تكن معروفة لكنها وردت فى سجلات الفنان، ومازال هناك ما يزيد على 40 لوحة ورد ذكرها فى السجلات لكن لم يتم الاستدلال على مكانها، كما وجدت لوحات منسوبة لمحمود سعيد وهى ليست له، ومنها لوحة لسيدة إسبانية معلقة فى متحف محمود سعيد بالإسكندرية لكنها ليست له.

وقد فوجئت فاليرى هس فى أثناء اعداد الكتاب بمكالمة تليفونية من حفيد الملك السابق فاروق من زوجته الأولى الملكة فريدة، وقد كان محمود سعيد خالها، يقول لها إنه سمع عن إعدادها للكتالوج فأراد أن يخطرها بأنه يمتلك بعض لوحات محمود سعيد، كما تلقى الدكتور حسام رشوان اتصالا من كندا من أحد المصريين المهاجرين يخطره هو الآخر بأن لديه لوحة لم يكن أحد يعرف أين هي، وكنت قد شاهدت فى السفارة المصرية فى ستوكهولم نسخة أصلية من لوحة «المدينة» اكتشفت أن معدى الكتاب لم يكونا يعلمان بوجودها فأخطرتهما بها وتم على الفور الاتصال بوزارة الخارجية حيث جرى توثيق اللوحة وتصويرها للكتاب.

ان «كتالوج ريزونيه محمود سعيد» هو تأكيد لاشك فيه لقوة مصر الناعمة والتى يسبقنا العالم دائما للاعتراف بها والولايات بها وتوثيقها، وإذا كانت قاعة كريستى العالمية قد سبقتنا للاشراف على هذه الموسوعة القيمة التى تضع محمود سعيد على الفور فى مصاف الفنانين العالميين، وإذا كانت دار سكيرا العالمية المتخصصة فى الكتب الفنية قد سبقتنا لاصدار الكتالوج، وإذا كانت دبى قد تفضلت مشكورة بإطلاق هذا العمل الفنى المهم، فلم يبق لنا إلا أن نطالب المركز القومى للترجمة بإصدار النسخة العربية من الموسوعة بسعر مقبول ليكون فى متناول أبناء بلد الفنان حيث إن ثمن النسخة الإنجليزية 400 يورو (8000جنيه مصري)، كما نأمل أن تتعطف مصلحة الجمارك وتفرج عن نسخ الكتاب المحتجزة فى الإسكندرية لاعتبارات بيروقراطية بالية، حتى يتم إطلاق الكتاب كما هو معد، يوم 8 ابريل المقبل فى مصر بلد محمود سعيد التى أحبها وكرس حياته لتخليد جمالها فى روائعه الفنية التى وضعت الفن المصرى الحديث فى المكانة العالمية التى يستحقها.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف