الأهرام
القمص أنجيلوس جرجس
بداية المسيحية فى العصر القبطى
رأينا فى مقالات سابقة صورة المجتمع المصرى بعد الاحتلال الروماني، ومحاولة فرض الفكر الوثنى ليحل محل الفكر المصرى القديم، ومحاولة جعل مصر بالقوة ولاية رومانية. مما جعل مصر فى هذه الآونة فى حالة اضطراب فكرى ودينى وسياسى واجتماعي، فقد شعر المصريون بفراغ روحى نتيجة محاولة تغيير هويتهم الروحية، وشعروا بفقدان كيانى نتيجة إحساسهم لأول مرة بأنهم تابعون لبلد آخر بعدما كانوا عبر التاريخ الطويل إمبراطورية عظيمة. هذا بجانب الاستغلال المادى واستنزاف ثروات مصر، مما جعل الحالة العامة للمصريين تشتاق للخلاص على مستوى روحى وسياسى ومادي، لذلك استقبل المصريون المسيحية باشتياق كبير لأنهم وجدوا فيها العمق الروحى وتحقيق آمالهم فى الحياة الأبدية والخلود.

فالمسيحية كانت كرازة الخلود وعبادة الإله الواحد بالإيمان بالسيد المسيح الذى يحقق اشتياقات السمو الإنسانى والارتفاع عن الأمور الأرضية. وفى هذا الوقت جاء القديس مرقس إلى مصر ليؤسس الكنيسة القبطية التى صارت فيما بعد منارة الفكر اللاهوتى والمسيحى للعالم كله.

وإن كان الإيمان بالمسيح سبق مجيء القديس مرقس فى أماكن متعددة، ولكنه هو الذى أسس الكنيسة القبطية فى مصر. فقد كانت البداية فى سنة 34 م. عن طريق يهود مصريين كانوا فى أورشليم وصاروا مسيحيين وجاءوا إلى مصر لينشروا الإيمان. ثم رأينا القديس لوقا أحد كتاب الأناجيل الأربعة قد أرسل إنجيله إلى مصرى يدعى ثاؤفيلس، والذى كان يحمل مركزا كبيرا فى مصر. وقد سبقه برثلماوس أحد تلاميذ المسيح فى التبشير بالمسيحية بالواحات بالصحراء الغربية.

القديس مرقس يهودى الأصل ولد فى القيروان (الجزء الشرقى من طرابلس بليبيا) وهى من المدن الخمس الغربية التى بناها اليونانيون وكانت خاضعة لمملكتهم فى مصر. واستمرت خاضعة للرومان. وكانت أقاليم غنية وبها مدارس كبيرة تعلم فيها القديس مرقس اللغتين اليونانية واللاتينية.

وكان من عائلة غنية، وكان اليهود يمثلون نصف سكان المقاطعة، وكانوا يتمتعون بحقوق مثل اليونانيين فى تلك المقاطعة. وقد ساعدوا يوليوس قيصر فى حربه ضد البطالمة فأعطاهم مميزات كبيرة. ثم هجمت عليهم بعض القبائل مما جعل عائلة القديس مرقس تترك القيروان، وترجع إلى أورشليم وكان هذا فى حدود عام 20 أو 25 م.

وقد كانت عائلة القديس من العائلات الغنية فى أورشليم وكانوا خلف السيد المسيح فى كل تحركاته حتى إنه صنع العشاء الأخير فى بيته. وكان بستان جثيمانى الذى قبض على السيد المسيح فيه ملكاً لوالد القديس مرقس. وقد اختاره السيد المسيح ليكون أحد السبعين رسولا بجانب أنه أحد الأربعة الذين كتبوا الإنجيل.

وكرز القديس مرقس فى أماكن كثيرة، وقد رافق القديس بولس الرسول فى كرازته. وبشر بالمسيحية فى لبنان وقبرص ثم دخل عن طريق البحر إلى المدن الخمس الغربية، حيث موطنه الأصلى وكرز هناك بالمسيحية. ثم دخل إلى الإسكندرية وبدأ فى تأسيس الكنيسة القبطية، وعمل أول أكاديمية لاهوتية مسيحية فى العالم لتواجه الفكر الوثنى المنتشر بالإسكندرية التى أصبحت فيما بعد صاحبة الفكر اللاهوتى فى العالم كله، حتى إنه حينما كانت تواجه المسيحية مشكلة فكرية يأتون إلى مصر للفصل فيها.

وفى هذه الأثناء كان القديس بطرس الرسول قد جاء إلى مصر ومكث فى بابليون (مصر القديمة) فجاء إليه القديس مرقس. وفى هذا الأثناء كتب القديس بطرس رسالته الأولى وكتب القديس مرقس الإنجيل المعروف باسمه. ثم ذهب إلى روما وكرز فى أماكن أخرى مثل فينيسيا (البندقية). وبعد استشهاد القديسين بطرس وبولس رجع مرة أخرى إلى المدن الخمس الغربية ثم إلى الإسكندرية.وقد أصبحت المسيحية منتشرة هناك وقد بنيت كنيسة مما جعل الوثنيين يشعرون بخطر على ديانتهم.

وفى يوم 25 أبريل عام 68م. كان يصلى القديس ليلة عيد القيامة وكان يوافق عيد الإله سيرابيس الوثنى فخرج الوثنيون وهجموا على الكنيسة وأخذوا القديس وربطوه فى عنقه بحبل وجروه وطافوا به فى شوارع المدينة حتى نزف دمه وتمزق لحمه، فأودعوه فى السجن تلك الليلة. وفى صباح يوم الأحد عيد القيامة أخذوه من السجن وجروه مرة أخرى فى شوارع المدينة إلى أن استشهد بعد أن روى شوارع الإسكندرية بدمائه الطاهرة. وجاء المسيحيون وأخذوا جسده ودفنوه بالكنيسة.

ويروى أحد المؤرخين وهو «ابن السباع» أنه أثناء الفتح العربى سنة 644م. يقول: «إنه حدث شغب بالإسكندرية وأحرقوا الكنائس فدخل بعض الأشرار لينهبوا الكنيسة فوجدوا صندوقا كبيرا ظنوا أن به غنيمة ولم يعرفوا أنه جسد القديس مرقس وهربوا به ووضعوه فى إحدى السفن. وحينما أرادوا الهرب لم تتحرك السفينة. وكانت سفن عمر بن العاص تغادر الإسكندرية وعلم بما حدث لتلك السفينة فأمر بتفتيشها فوجدوا جسد القديس فأحضر البابا وأرجع له الجسد وأعطاه عشرة آلاف دينار لبناء كنيسة على اسم القديس».

وفى عام 828م. كان جسد القديس فى كنيسة تحت سلطة اليونانيين بينما رأسه فى كنيسة الأقباط تم نقل الجسد إلى البندقية وبنوا هناك كاتدرائية كبيرة وضعوا فيها جسده. وهى من أهم معالم مدينة فينيسيا (البندقية). ويروى أهل المدينة عن معجزات كثيرة تحدث فى المدينة سجلت فى لوح فنية مثل لوحة «بارى دى أوردو» التى تمثل القديس مرقس وهو يحمى المدينة.

وبعد استشهاد القديس مرقس انتشرت المسيحية فى كل مصر رغم الاضطهاد الرومانى الذى حاول بكل الطرق أن يوقف الكرازة المسيحية فى العالم كله خاصة مصر. فقد كان فى فكر أباطرة الرومان أن مصر هى عقل العالم المسيحى الجديد الذى صار يهدد الديانة الوثنية فى العالم كله. فحاولوا بناء معابد وثنية فى كل مكان وفرض الوثنية بالقوة واعتبار المسيحية جريمة يعاقب عليها القانون. ومن هنا بدأت ملحمة البطولة المصرية الجديدة فى الثبات حتى الموت فلم يهتز الأقباط لا بتهديد السلاح ولا بالجوع أو الاستيلاء على الممتلكات أو التعذيب أو الحرق بل كانت المسيحية تنمو وتنتشر رغم الاضطهادات، وبدأ ما يسمى بعصور الاستشهاد المسيحى فى مصر.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف