التحرير
أحمد بان
أهم مقومات التغيير فى مصر
فى أى نقاش يجمع المصريين فى محفل عام أو خاص، يبدو الحوار لونا من ألوان العراك المسلح بالضغينة والأفكار المسبقة والقناعات الحدية، هذا يتبنى موقف النظام بالمطلق ويبدأ فى تلاوة بيان الحكومة، عن كيلومترات الطرق التى أُنجزت والكبارى والمليون ونصف المليون فدان وقناة السويس الجديدة، وغيرها من مفردات البنية الأساسية التى تصلح مفردات بيان محافظ معنىّ بحصر مشاريع البنية والتطوير التنموى فى محافظته، أو حتى كشف حساب الهيئة الهندسية التى تحولت إلى أكبر مقاول فى مصر، بعد أن تحول البلد بالحال والمقال إلى شركة مقاولات كبيرة، لا تسمع فيها سوى أصوات الحفر والردم، التى تحولت إلى حيثيات تبرز كفاءة الرئيس والنظام، منذ أولع مبارك بافتتاح الكبارى والطرق ومفردات البنية الأساسية، معتقدا أنها أهم مظاهر الكفاءة وحيثيات الشرعية ودلائل النجاح فى إدارة الدولة. ثم يجود هذا الفريق بالحديث عن جهود مكافحة الإرهاب، وعشرات الشهداء من قوات الشرطة والجيش، الذين لهم منا كل تقدير واحترام ودعاء حار لهم بالجنة، ولأهليهم خالصُ المواساة وأمانى الصبر، حتى هؤلاء تسوق تضحياتهم فى الغالب باعتبارها إنجازا ضمن إنجازات النظام، بالرغم من أنها المظهر الباقى لارتباط المصريين بدينهم ووطنهم وحبهم للشهادة فى سبيلهما، وهى محض انتماء وصدق ولاء لهذا الوطن العزيز لا فضل فيها لنظام أو حكومة، ومع ذلك يبقى من أهم المظاهر التى يحرص عليها النظام تنظيم الاحتفاليات والمهرجانات التى يكرم أهالى الشهداء على هامشها، بالشكل الذى يريد النظام من خلاله أن يقول إن هذه التضحيات تأتى ثقة فى النظام وتأكيدا لشرعيته، خصوصا عندما ينخرط أحد أهالى الشهداء فى تدبيج وصلة من المدح أو الثناء لرأس النظام يؤكد فيها الولاء والمبايعة. يبدو هذا الفريق الموالى للنظام حادًّا فى قناعاته مخلصًا للنظام أيًّا كان لونه واتجاهاته، وهذا الفريق فى قاعدته الرئيسية هو نفس الجمهور الذى صفق لناصر ودولة الرعاية والحماية، كما صفق بنفس الهمة للسادات الذى سجن الأمة العربية فى قفص "كامب ديفيد" وأضاع الاقتصاد بسياسات الانفتاح، كما صفق لمبارك وصبر عليه ثلاثة عقود واصل فيها مبارك سياساته التخريبية التى أوصلتنا إلى ثورة يناير، كما هو نفس الجمهور الذى دافع عن مبارك ولعن الثورة، مؤكدا الاستقرار وإن كان فى قاع بئر عميقة. يضم هذا الفريق، لا شك، مصريين يحبون هذا الوطن ويتمنون له الاستقرار والعافية، ولا يجدون بديلا أفضل فيصبرون على السيئ خوفًا من الأسوأ، لكنّ فى أعماقهم شعورا بعدم الرضا عن الموجود وأملا خافتا فى مستقبل أفضل، لا شك فى ذلك. على الجانب الآخر يبدو جمهور المعارضة للنظام الحالى متنوعا جدا، بين إخوان أو متعاطفين معهم لا يجدون فى هذا النظام سوى انقلاب انقلب على الشرعية الديمقراطية، ونكّل بمّن أصروا على الدفاع عنها بالسجن والقتل والتشويه، وهؤلاء لديهم مشكلة تتعلق بإنكارهم الواقع ووقوعهم فى شرك خدعة نفسية، جعلتهم يعتقدون فى عودة مرسى كما يعتقد إخواننا الشيعة فى عودة الإمام المختفى منذ قرون. وقد مارس هؤلاء، فضلا عن إنكار الواقع، عزلة نفسية عن المجتمع تصاعدت معها أجواء الاتهام والشك والخوف من الجميع، وهؤلاء ديدنهم التشكيك فى كل شىء وتضخيم كل إخفاق، والحقيقة، النظام لا يبخل عليهم بالهدايا فى هذا المضمار، فضعف الكفاءة والفساد ينتجان دائما ما يشفى نهم هؤلاء، وتتكفل الآلة الإعلامية بنشر الأمر وإشاعته، ليتعاظم شعور الناس بجنايتهم فى حق الإخوان الذين استبدلوا الذى هو أدنى (السيسى) بالذى هو خير (مرسى) كما يعتقدون، وهؤلاء وضعوا مقياسا للإنسانية والوطنية يبدأ لديهم بأن تقر بأن ما جرى فى "30 يونيو" انقلاب، وأن مرسى هو الرئيس الشرعى، بالرغم من أن مفهوم الانقلاب فى مصر كغيره من المفاهيم غير محدد الملامح، بين انقلاب تحول إلى ثورة أو ثورة تحولت إلى انقلاب، فضلًا عن أن الإرادة الشعبية التى تصنع الشعبية تجسدت هنا وهناك، فبماذا نسمى ما جرى.. ثورة أم انقلابا؟ أنا شخصيا أصبحت على قناعة بأن أمورنا لن تنصلح لا بثورة ولا عبر انقلاب، بل عبر عملية إصلاح طويل، تحظى بتبنٍّ وقبول شعبى واسع، تنطلق من استحضار قيم حوار صحيحة بين هذين الفريقين لنحدد معًا ماذا نريد؟ وكيف نصل إلى ما نريده لمصر؟ ولن يتأتى ذلك إلا بمراجعة ينخرط فيها الجميع، تتوخى تحرير نقاط الاتفاق المشتركة التى تشخص ما جرى فى مصر منذ لحظة "يناير" وحتى اليوم، وتعيد تنظيم هذا المجتمع فى قوى لها هيكل وقرار. الثورة فى هذا التوقيت وببنية المجتمع الحالية لن تنتج سوى فوضى، لن يستفيد منها سوى أعداء الحياة، كما أن استمرار النظام بنفس المنهج لن يمضي بمصر نحو المستقبل.

لا بد من أن تنتظم طاقة الموالاة وطاقة المعارضة فى أحزاب حقيقية يترك لها فضاء حقيقى للحركة، ونقابات وتنظيمات مجتمع مدنى تحيل حالة الاحتقان والغضب التى تحيط بالجميع، إلى طاقة للمشاركة السياسية عبر أحزاب ونقابات شرعية، تبنى البدائل وتتدرب على التدافع السياسى السلمى وتنضج الكوادر والرؤى. لن تتحرك قضية التغيير خطوة واحدة إلى الأمام مع هذا الاحتراب فى الأفكار والنقاشات بين أهلى وزمالك، أو أهل الخير وأهل الشر، لا تتقدم مجتمعات فى ظل هذا الانقسام، مع كل فريق حق وباطل، لا يوجد من يحتكر الحق فى ساحته، نحن جميعا بشر كما أننا جميعا مصريون، يحبون هذا البلد ويتمنون له الخير، لكن طاقاتنا تتبدد فى مسارب سلبية ضارة. دعونا نبدأ بحوار جاد حول مستقبل هذا البلد وننظم جهودنا فى بِنَى الدولة الحديثة، الأحزاب والنقابات والاتحادات. التنظيم كلمة السر، نظِّموا أنفسكم فى أى صيغة ترونها مناسبة لطاقاتكم ومواهبكم، كونوا طرفا فاعلا فى التدافع السياسى الذى يرفع كفاة البدائل ويدربها على أن تكون بدائل حقيقية، لكن الكلام فى الفضاء الافتراضى أو المحافل العامة وتنفيث الغضب بالشتيمة والسب، سواء اتجه هنا أو هناك لن يفعل شيئا سوى تأبيد صيغة الفشل العام التى يعد ما تفعلونه أهم مظاهرها. إما أن تكون جزءا من الحل أو تبقى أنت المشكلة، فأنت وما تريد.

تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف