المقدمات لا بد أن تتسق مع النتائج وتتفق معها، لذا لم يكن مستبعداً ولا مستغرباً أبداً موقف الأزهر الشريف وتجاهله لقضية تجديد الخطاب الدينى، تلك القضية التى أضحت حتمية فى ظل الواقع المتردى وحالة التشرذم والتدهور وفقدان الوعى التى لحقت بالأمة، فعندما ننظر بعين الذاكرة نعى مبررات هذا التجاهل الذى تعاملت به تلك المؤسسة الدينية العريقة مع هذه القضية، ونلمس أسباب التصدى لأى مشروع أو محاولة لإيقاظ الوعى العربى وتشكيل عقل جديد قادر على التفكير دون وصاية، وندرك مدى حجم التشدد والانغلاق الذى يسيطر على مفاصل وأركان مؤسسة الأزهر، ويستشرى بين مشايخها وعلمائها على مدى ما يقرب من نصف القرن، مما جعل منها معقلاً للتيارات السلفية والإخوانية، ومأوى للتنظيمات المتطرفة والجماعات الإرهابية، وهذا ما يجعلنى أقول لمن يتولون مسئولية هذه المؤسسة الدينية: لا تثريب عليكم اليوم!!
لكن هل يستطيع الشيخ أسامة الأزهرى وحده التصدى لهذه المهمة شبه المستحيلة؟! وهل يمكن أن تسمح المؤسسات الدينية فى الدولة باكتمال هذا المشروع النهضوى فى ظل هذا الوضع القائم الذى يهيمن عليه أصحاب الفكر الدينى المتشدد والمنغلق، ووسط هذا الجمود والتطرف الذى بات يسيطر على مؤسسة كانت منبراً لحركات التنوير والتجديد؟! وهل نحن فى حاجة إلى تجديد الخطاب الحضارى فى كل مجالات الحياة، وليس الخطاب الدينى وحده حتى تؤتى الجهود ثمارها؟ وإذا كان الخلاص من الأزمة العربية الراهنة مشروطاً بنقد العقل العربى وتفكيكه على النحو الذى يفتح الباب أمام انبثاق عقل جديد، فهل حقاً التراث هو الساحة الرئيسية التى يتحقق فوقها هذا العمل النقدى؟ ولماذا فشلت كل المشروعات النهضوية السابقة التى خاضها رجال مخلصون مستنيرون وأصبحت نسياً منسياً؟!
فكلما قامت فى المجتمع العربى حركة تنويرية إصلاحية تحرّض على الفكر وتُعلى قيم العقل على النقل، وتسعى لانتشاله من حالة الجمود والتيبس والثبات، كان مآلها الضمور والاندثار والتلاشى، بداية من محاولات فرقة المعتزلة رائدة الفكر العقلانى التنويرى الذى سبق نهضة الغرب، والتى نادت بالاعتماد على العقل والعمل الجاد فى شرح وتفسير العقائد الإسلامية، وانتهت بالتعذيب والسجن والقتل، مروراً بالفيلسوف والمفكر الأندلسى ابن رشد، صاحب الأطروحات والمنهج الفكرى العقلانى الذى يؤمن بأن الفلسفة والشريعة لا يتناقضان، وأن الشرع أوجب ليس فقط النظر بالعقل فى الوجود، بل أوجب أيضاً دراسة المنطق، لأن الحق لا يضاد الحق وإنما يؤكده ويشهد له، وإذا كان هناك تعارض بين نص دينى وقضية عقلية فهو تعارض ظاهرى يمكن حله بالتأويل، وكان الحرق سلاح المتشددين فى التصدى للفلسفة الإسلامية، وكان موته انتصاراً لمدرسة النقل، وبداية حقبة من تخلف الأمة الإسلامية وتأخرها عن ركب الحضارة الإنسانية!!
ولم يسلم التنويريون والإصلاحيون وأصحاب المعارك والمشروعات الفكرية والحضارية فى العصر الحديث من نفس المصير، بداية من رفاعة الطهطاوى وجمال الدين الأفغانى مروراً بالشيخ محمد عبده وطه حسين وحسن حنفى وفرج فودة ونصر حامد أبوزيد، وغيرهم ممن سعوا لمحاولات التجديد وفصل الدين عن السياسة، وإعادة صياغات جديدة للقضايا الدينية ذات الطابع الاجتماعى، وطرح رؤى إصلاحية توقظ عقل الأمة من سباته الطويل، وتفرز مجتمعاً مدنياً مرجعيته الشريعة الإسلامية، يستطيع أن يواكب العصر ويحقق نهضة الوطن وتقدمه.
لقد أوضح د. على مبروك جوهر الأزمة حين قال إنها ذات طبيعة عقلية، فالعقل العربى الذى يفضل دائماً أن يكون خاضعاً لسلطة، هو الناتج المباشر لما ساد التراث الإسلامى من طريقة فى التفكير، وهو المنتج للتقليد فى الدين والاتباع فى المعرفة والإذعان فى السياسة والأبوية فى الاجتماع والتبعية فى الاقتصاد، وإذا كان الخلاص من التردى والأزمة العربية الراهنة مشروطاً بنقد العقل العربى وتفكيكه على النحو الذى يفتح الباب أمام انبثاق عقل جديد، فإن التراث هو الساحة الرئيسية التى يتحقق فوقها هذا العمل النقدى، فالتراث هو الإطار الذى يتبلور داخله عقل أى أمه، وحدود المسموح والممنوع فى نقد التراث الإسلامى بدقة وموضوعية سوف يفتح الباب أمام انطلاق عقل عربى قادر على التفكير دون وصاية.
وللحديث بقية.