المصرى اليوم
يوسف زيدان
أحلام أمانى المستحيلة (قصة قصيرة)
هذا الصباح صحوت مبكرة عن المعتاد، كعادتى فى أيام السفر، فارقت فراشى ممتلئة بالحماس، وباسمة. فحقيبتى الأنيقة معدة منذ عصر أمس، وفوقها جواز سفرى وبرنامج المؤتمر، وإلى جوارها يرتمى بدلال ما سوف ألبسه أثناء السفر.. ما معنى قولهم إن السفر قطعة من العذاب! ثم يعارضون ذلك بقولهم إن فى السفر سبع فوائد! هذا كله كلام عام، مجرد.. كل رحلة لها طابع خاص ووصف مخصوص، وسفرتى اليوم لها المذاق الأعذب وفيها الفائدة الأقرب إلى قلبى، وهى مقابلة «ناظم» وإتمام ما لم يتم من قبل.

تعجلت فى مفارقة سريرى الحنون، مع أنه لا داعى للعجلة، فلن تقلع طائرتى إلى بيروت إلا فى تمام الواحدة ظهراً، يعنى سأكون فى المطار حوالى الحادية عشرة، يعنى لن أحتاج النزول من بيتى الجديد الجميل هذا، قبل العاشرة. فالطريق من «المحرق» إلى المطار ليس طويلاً، وشارع «خليفة الكبير» الذاهب إلى هناك يكون غير مزدحم فى هذا الوقت.. كل شىء جميل، ومبشّر.

أعددت على مهل قهوتى، وخلال ذلك غسلت الطبقين النائمين منذ أمس فى حوض المطبخ، وأكلت قطعة من علبة (الحلوى العُمانية) تأكيداً لخرافتى الخفية الطريفة، الحلو فى الصباح يستدعى طيلة اليوم الحلاوة.. هذه واحدة من الأساطير التى صنعتها لنفسى وآمنت بها من زمن طفولتى الأولى فترة الفوران المسمى: ميعة الصبا. اسم لطيف. أيام ميعة صباى كانت حافلة بكل المتفرق والمتضارب من المشاعر، فيها الفرح والفزع ولذة التوارى والميل إلى إبراز مظاهر الأنوثة، والخوف من بطش الرجال، ولذة التوق الانفردى فى الأمسيات الساكنة إلى حضن رجل. وفيها الاستمتاع السرى فى سماوات الخيال. هى ضفيرة عجيبة مجدول فيها كل ما هو أنا، وهو كثير وحقيقى جداً.. ومن أيامها حافظت على عادتى السرية، حتى فى أيام المدرسة الابتدائية، كنت ألتزم يومياً بساعة الخيال والأحلام المستحيلة، فأصحو قبيل الفجر وأتسلل إلى المطبخ فأبحث عن المتاح من حلو المذاق، فآخذ منه ملعقة أو قطعة، أعود إلى السرير وهى بعدُ فى فمى، وأتغطى مثلما كنت، وأكشف ما يوافقنى من صنوف الخيال وفنون الأحلام، حتى يأتى موعد استيقاظى لهذا اليوم أو ذاك، فأصحو وأنا الصاحية. أنا الحالمة المحققة بالخيال كل ما أتمناه، أنا الهائمة منذ ساعة أو أزيد فى آفاق لن يعرفها سواى، أنا الموجودة بالكامل فى اللحظة الحقة، الفريدة.

ومع مرور الأيام تطورت طريقتى فى الهروب من ضيق الواقع إلى رحابة ذاتى، فكنت أحتفظ بالحلوى قرب سريرى كيلا أحتاج التسلل منه، وكنت أتجرأ شيئاً فشيئاً وأزداد جسارة فأنتصر على واقعى.. حين زمجر أبى غضباً مما ظنه من ملابس مكشوفاً، فصاح فى: تحشّمى يا أمانى! لم أكن أفهم سبب غضبه، ولا أدرى ما معنى الحشمة المقصودة، فلما أفهمتنى أمى ورسمت برفق أمام عقلى ملامح المأساة. سكنت، وراعيت ما يريده أبى طيلة الوقت، إلا فى ساعة الأحلام المستحيلة التى أجعلها بعقلى المتوارى ممكنة. فأرانى فجراً تحت الغطاء أعيش فى بلد لا تخرج فيه الفتيات إلا عاريات، وليس فيه أحد من الرجال أو الشبان أو الصبيان، فقط، أطفال «أبرياء وفتيات» يمرحون بلا أى خوف من أى شىء، ويتعالون بالضحكات فى الطرقات المحفوفة بالأشجار المزهرة وألوان الفواكه المبهجة والطيور المغردة.

أيام دراستى الجامعية أحببت أصغر أساتذتى سناً، وأكثرهم أناقة، وأجملهم شكلاً.. كان كثير من زميلاتى يتمنين الاقتراب منه، ويختلقن الذرائع للتحدث معه، وفيما بينهن يتأوهن. تركت لهن أوهامهن يتخبطن فيها، وفزت به زوجاً محباً وعاشقاً يشتعل اشتياقاً لمزيد من النيران كلما مسه اللهب. بقينا معاً عدة أشهر، حافلة باللهو والمرح السريرى والسفر إلى الأنحاء الساحرة فى العالم، حتى مللت منه وأزحته برفق بعيداً عن ساعات تحليقى فى سماوات ذاتى.. والعجيب أننى بعد فترة من انفصالنا، بناءً على رغبتى، رغبت فيه فاستدعيته لثلاثة أيام متوالية، حافلة بالملذات، وبعدها رغبت عنه مجددا فأطلقت سراحه.

وحين وقعت الحادثة المروعة على جسر الملك فهد، وتوفى أبى وأمى وهما فى الطريق إلى الحج، بالسيارة الجديدة التى صارت وهى مهشمة مثل ورقة قديمة مكرمشة. صدمت، ولم يستطع عقلى العمل لعدة أسابيع حتى أوشكت على الهلاك، ثم عادت العافية إلى فصرت أجلس معهما كل يوم فى الجزيرة التى اتخذاها مسكناً لهما بعد الحادثة.. ورويداً، تعرفت معهما إلى أنحاء هذه الجزيرة التى تشبهها الجنات، وتحولت معهما على حواف ساحلها الساحرة ألوانه بالتناغم بين درجات الزرقة والاخضرار، وسبحت فيه مع أمى وأبى جالسا فوق الرمال ينظر إلينا نظرة باسمة. وبعد عدة مرات من تحقيق المستحيلات سراً، أيقنت بأن أبى وأمى لم يذهبا بعيداً، وما الموت الذى يظنه الناس افتراقاً أبدياً إلا غلالة يتوارى خلفها الراحلون فيحتجبون بها عنا، مع أنهم بالقرب منا.. أيامها، أخطأت وأخبرت أخى «قاسم» بيقينی هذا، فوافقنى وقال مؤكداً كلامى وهو فى واقع الأمر يطيح به وينفيه، إنهما ماتا فى حادثة يعنى شهداء، والشهداء ليسوا أمواتاً بل أحياءٌ عند ربهم يرزقون.. مسكين أخى «قاسم» فعقله قاصر عن إدراك ما أخبرته به، ربما لقصور قوى المخيلة عنده بسبب اهتماماته السياسية.. مسكين كان أبى يرجوه ويتوسل إليه كى يبتعد عن جماعات المعارضة، وكانت أمى تبكى، لكنه استمر فيما هوغارق فيه وبلغ من البلاهة أن ظن التغيير ممكناً والإصلاح محتمل الحدوث فى الخارج عنا، وفى غيبة الخيال الخلاق. مسكين قاسم.. انتهى وجوده العمومى بعد سنة من احتجاب أبى وأمى خلف غلالة الغياب، وصار اسمه فى كشوف الاختفاءات القسرية البائسة، فلا هو حى فيرجى ولا ميت فينعى. وقد عجزت عن استدعائه إلى ساعات خيالى الأقوى وقعاً من الواقع، بسبب تشوش ذهنى فى أعقاب اختفائه وإصرار عمى «جعفر» على عدم البقاء بالبيت وحدى، ودعوته بإلحاح إلى انتقالى للعيش مع أسرته. كانت دعوة خبيثة، نجوت منها حين سألت أبى ونحن جالسان على شاطئ الجزيرة، وأمى بجوارنا تسمع فأخبرنى أبى بأن عمى طامع فى ميراثى أنا وأخى الغائب الذى غالباً لن يعود،، ونصحنى بالاستعانة بصديقه القديم «على المولانى».

أعاننى صديق أبى فى تصفية تجارته وفى تأجير الدكاكين التى ورثتها، وهدانى تفكيرى إلى الابتعاد عن عمى «جعفر» وعن عالمى السابق، فتركت (الرفاع) وسكنت بهذه الشقة اللطيفة بأطراف (المحرق) فعاودتنى القدرة على النفاذ من حُجُب الواقع بقوة الخيال، حتى تناغمت بداخلى حقائق الخيال ومخادعات الواقع المراوغ الذى يهيمن على عقول البسطاء من الناس.

■ ■

بعد انتقالى إلى هذه الشقة بشهرين، زارتنى «شيخة» التى تعدنى رفيقة عمرها، أو تزعم ذلك أمامى. ويوم زيارتها بكت واشتكت بحرقة من ظلم زوجها فاحتضنتها مواسية فتسللت لى من عقلها مشاعر لم أستسغها، نصحتها بالصبر فقالت إنه نفد. وأشرت إليها بأن تدفن همومها فى خدمة طفليها، فردت بأن بيتها فيه خادمتان. ولما وجدتها تحدق ذاهلة نحو صدرى سألتها عما بها، فأجابت بأنها تعانى من الفراغ.

احترت فى أمرها وعزفت عن مسايرتها فيما لم تفصح عنه إلا بنظرات لهفى، فأردت أن أهدى إليها طريق الخلاص مما تعانيه، ونصحتها بالخيال الخلاق. لم تفهم. أوضحت لها أن فيها قوة خاملة، عليها أن تستفيد منها وتحلق بها فوق الوقائع المعيشة حتى تكتسب القدرة على العيش فى عالم المثال. لم تفهم وتوجست من كلامى. أشفقت عليها فبسطت لها الأمور بأمثلة تفهمها بوعيها المحدود، وشرحت لها أننا أثناء الحلم المنامى لا نشك فى واقعية أحلامنا، حتى نصحو فنرى الواقع يختلف عما كنا نراه فى الحلم. وندرك أن هذه حالة إدراكية مغايرة، ونظن أثناء الصحو أن ما نراه حقيقى ولا يجب الشك فى واقعيته، تماماً مثلما كنا فى الحلم نظن أن ما نراه واقعى جداً وحقيقى تماماً.. زاغت نظرتها وراحت تحدق وهى مشدوهة فى فنجان قهوتها. سألتها إن كانت تدرك أنها الآن مستيقظة وتنظر بإمعان إلى الفنجان، فأجابت بالإيجاب، فسألتها إن كانت واثقة تماماً مما تقول وترى، فأكدت، فقلت لها إنها الآن تظن أن الفنجان جماد ساكن لن يتحرك بذاته. لكن هذا خداع بصرى ووهم لا يقل خيالية عما تراه فى أحلامها، لأن هذا الفنجان مثل كل ما يحيط بنا فى هذه الصالة والغرف المحيطة بها، ليست جمادات ساكنة مثلما نتوهم. وإنما هى موجودات مرئية بمستوى معين، تنقسم إلى جزئيات تنقسم بدورها إلى ذرات تنقسم إلى إلكترونات وبروتونات، بينها جسيمات متناهية الصغر تسمى «كوراك» وهى طاقة هائجة مفعمة بالحركة، لا جماد ساكن، وإذا أصدمت هذه الكوراكات فى ذرة، انشطرت، فوقع الانفجار النووى المريع.. ارتدت «شيخة» عباءتها متعجلة وأسدلت على رأسها الستر الأسود، واستأذنت فى العودة لبيتها لأنها تأخرت والطريق طويل.

لم تأت من بعد لزيارتى، ولم تتصل، فاسترحت منها.

■ ■

بعد استقرارى هنا بعامين حصلت على درجة الدكتوراه برسالة نشرتها لاحقاً فى كتاب عنوانه: الدور المحورى للبطل التراجيدى عند أرسطو.. ولمع على غلافه اسمى الرسمى: الدكتورة أمانى صالح آل عصفور، وبعد عام كامل أخبرنى الناشر أن كتابى لم يتوزع منه إلا سبع عشرة نسخة، منها خمس نسخ حصلت عليها جهات أمنية ورقابية، مجاناً. وقيل لى إن ما قاله الناشر كذب. لم أهتم بهذه الأمور المالية التافهة، لأن غايتى الأولى تمت وتحقق حلم أبى فى العمل كأستاذة جامعية وإصدارى لكتب تحمل اسمى واسمه ولقب العائلة.

والعام الماضى فى مثل هذه الأيام، لبيت الدعوة التى وصلتنى شخصياً من مؤسسة «الحوار اليورومتوسطى»، التابعة للاتحاد الأوروبى، لحضور مؤتمر الكلاسيكيات الذى انعقد فى مدينة «فينسيا» المسماة عندنا: البندقية! وشاركت ببحث كان عنوانه: البدايات الساتورية للمسرح الإغريقى حتى عصر إسخيلوس.. ونال بحثى استحسان منظمى المؤتمر، والمشاركين الذين حضروا الجلسة ولم ينسربوا من القاعة ويتسربوا إلى الأنحاء الساحرة. كانوا قرابة عشرين مشاركاً، وكان منهم الدكتور «ناظم زعيتر»، الذى استمعت فى اليوم التالى إلى بحثه عن بلدة جبيل «بيبلوس» فى الألف الثالثة قبل الميلاد، ودورها فى تأسيس الأبجدية.. حضر جلسته كثير من المشاركين بالمؤتمر، وبالأحرى معظمهم، لأنه مشهور بين دارسى التاريخ القديم، وله مؤلفات معروفة، ووسيم.

بعد إلقائه بحثه امتدح بحثى الملقى بالأمس، فشكرته، وبعد الغداء اقترح علىَّ أن أذهب معه لزيارة كنيسة «سان ماركو» البديعة، فوافقت من فورى وأظهرت اقتناعى بما قاله من أن الجلسة المسائية ستكون مملة لأنها تدور حول أشكال كتابة الحروف اليونانية فى القرن الخامس قبل الميلاد. طبعاً ستكون مملة. على الرصيف البحرى الفسيح المجاور لمبنى الكنيسة الأثرية، جلسنا فى مقهى أنيق وقبيل الغروب سرنا متجاورين حتى وصلنا إلى السور القصير المطل على «جسر التنهدات» ثم أخذنى إلى مطعم أكلت فيه طبقاً لم أتخيل أنه موجود: مكرونة مغمورة فى الحبر الأسود للحبار!.. كان الطعام مستساغاً، لأنه كان معى.

عدنا للفندق بعد انتصاف الليل بقليل، وكان للأسف سوف يسافر إلى لبنان فجراً، فودعنى متحسراً على فوات الفرصة للبقاء معى وقتاً أطول، وقال إن نصف يوم لا يكفى لمعرفتى على النحو الذى يتمناه، لطيف، فى الصباح التالى بحثت عنه بين الحاضرين، مع علمى أنه سافر، وسرت وحيدة بعد الغداء إلى حيث كنا بالأمس، وجلست فى المقهى ذاته مستحضرة كل ما دار بيننا من حديث، ومستدعية طريقته الراقية فى الكلام معى والإنصات لى، ومستغربة من الألفة المفاجئة التى كانت بيننا والوحشة المفرطة التى صرت فيها.. وعدت إلى الفندق، ثم إلى البحرين، حزينة لفراقه.

فى نصف يوم صرت أعرفه، وأفهم مشاعره المضطربة تجاه زوجته اللاهية التى لا تقيم وزناً إلا للماديات، وتحديداً للمال. قال إنها تنوى ترك عملها ببيروت للسفر إلى فرنسا والاستقرار هناك، وبالتالى فالطلاق بينهما واقع لا محالة عما قريب، لكنه يخشى الوحدة فى بيته الصغير المنعزل بمنطقة «برمانة» الجبلية، وقال إنه جاء قبل سنوات إلى «المنامة» فلم يحب المكان والأحوال الجارية والتوتر المذهبى الذى لا يحتمله، وقال إنه على غير عادته طرح تحفظه وهو يتحدث معى لأنه شعر بأننا التقينا من قبل أن نلتقى، وقال إنه يؤمن بعالم الذر الذى كانت فيه الأرواح قبل خلق الأجساد.. وقال الكثير من الكلام الملىء بالمؤانسة والمفعم بالإمتاع.

خلال هذه السنة تواصلنا بالرسائل والمكالمات، وكنا سعداء كالأطفال حين عرفنا أن المؤتمر السنوى سينعقد فى بيروت، وأننى مدعوة إليه. واكتشفنا أن أموراً كثيرة تجمع بيننا، كالولع بالقديم والإيمان بالإنسان والثقة فى العقل والخيال الخلاق.. وكان من الطريف أننا اكتشفنا اتفاقنا فى المذهب، مع أننا لا نعتد بالمذاهب.

■ ■

الساعة تعدت العاشرة بدقائق، ولابد أن أسرع بارتداء ملابسى والذهاب إلى المطار.. وبعد ساعات ثلاث سأجده ينتظرنى فى مطار بيروت، وسيذهب بى إلى فندق ثم نسير الهوينا متجاورين فى شارع الحمراء الذى أتوق إلى رؤيته من كثرة ما سمعته عنه وعن محلاته الأنيقة والبهجة المبثوثة بين جنباته، ثم نذهب كما وعدنى إلى الرصيف البحرى فنجلس قبالة الصخرة الشهيرة حتى الفجر. لن تفلت منا دقيقة، وسنكون دوماً معاً: فى المؤتمر وجلساته، ورحلاته الترفيهية.. فى الصباح، وفى الأمسيات التى أعد لنا فيها برنامجاً حافلاً، لنا وحدنا.. فى الواقع المعيش، وفى خيالى الخلاق.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف