الأهرام
عبد الفتاح الجبالى
تسعير الخدمات العامة
مازالت أصداء قيام وزارة النقل بمضاعفة سعر تذكرة مترو الانفاق من جنيه الى اثنين تثير العديد من ردود الأفعال الغاضبة،
خاصة وأنها تأتى عقب رفع أسعار العديد من الخدمات العامة مثل الكهرباء والمياه وغيرهما، ناهيك عن الموجة التضخمية الشديدة التى تشهدها البلاد حيث وصل معدل التضخم الى أعلى مستوى له منذ عدة عقود(31.8%). وهو ما يطرح بدوره التساؤل عن معايير التسعير وحساب التكاليف بالنسبة للخدمات العامة. وهل رفع الأسعار هو السبيل الوحيد لإعادة التوازن المالى لهذه الوحدات الاقتصادية؟

لاشك ان الإجابة على هذه التساؤلات وغيرها سوف تساعد كثيرا فى المستقبل فنحن نرى ان رفع الأسعار على الرغم من أهميته وضرورته إلا انه لا يعالج مكمن الخلل الرئيسى الذى يسبب هذه الأوضاع، وماهو الا مسكن من المسكنات الوقتية لمشكلات جوهرية. ونقصد بذلك تحديدا أوضاع هذه الهيئات والكيانات الاقتصادية.

وهنا يفرق علم الاقتصاد بين السلع والخدمات من حيث المرونة فى علاقتها بالأسعار، فهناك سلع مرنة بحيث يؤدى ارتفاع أسعارها الى اللجوء لبدائل اخري، وهناك سلع مكملة لبعضها البعض، مثل السيارات والبنزين، وهناك سلع عديمة المرونة، أى ان الطلب عليها لا يتأثر بمستويات الأسعار، ومن أهمها الادوية او السلع الضرورية. وهنا نلحظ ان الخدمات العامة مثل مترو الانفاق والمياه والكهرباء تدخل فى نطاق السلع عديمة المرونة بمعنى ان الزيادة فى السعر لاتؤثر على الطلب، حيث يضطر المواطن الى استخدامها والانصياع التام للسعر الجديد مثلها مثل الكهرباء والمياه. وبالتالى ينبغى على السياسة التسعيرية ان تأخذ بعين الاعتبار هذه المسألة وذلك مراعاة لاعتبارات العدالة الاجتماعية، وهو مالم يحدث على الإطلاق فى جميع القرارات السابقة فعلى سبيل المثال حينما قامت وزارة الكهرباء برفع الأسعار وفقا لشرائح الاستهلاك وزعت الشرائح الثلاث الاولى على النحو التالى ( الشريحة الاولى من صفر حتى 50 ك و ت، والثانية من 51 حتى 100 ك.و.ت) وهذا منطقي، ولكنها جاءت على الشريحة الثالثة وهى التى تضم الشرائح الدنيا من الطبقة الوسطى وبعض الشرائح الأقل لتصبح ( من صفر حتى 200 ك.و.ت) أى انه تغاضى عن منطق الشرائح وضغطت بشدة على هذه الشريحة وظلمتها كثيرا.

وهو ما تم أيضا فى التعديل الضريبى الذى تم فى عام 2014 والذى ظلم كثيرا الطبقة الوسطى من متحصلى الأجور والرواتب حيث قلل الشرائح الدنيا ونزل به الى مستويات تمس الدخول الاساسية لمعظم الطبقة المتوسطة العاملة بأجر وخاصة موظفى الحكومة والقطاع العام، وهكذا ضغط على هذه الشرائح.

اما فيما يتعلق بتسعير الخدمات المقدمة من الوحدات والهيئات العامة فإننا نلحظ انه كان من المفترض ان تحقق هذه الوحدات التوازن الاقتصادى والمالى بحيث تغطى نفقاتها من مواردها الذاتية، وبالتالى تخفف العبء عن الموازنة وهو مالم يتحقق على الإطلاق اذ ظلت هذه الجهات تحقق خسائر متراكمة عبر السنوات. كما أوضحت موازنتها انها تحصل على مساهمات من الخزانة العامة وذلك لتمويل سداد القروض المحلية والخارجية المستحقة عليها وعجز العمليات الجارية المرحل ببعضها. وباتت الموازنة العامة للدولة تتحمل سنويا أعباء مالية كبيرة خاصة فى قطاع النقل (سواء كان لهيئة السكك الحديدية او لمترو الانفاق) حيث تحصل هذه الهيئات على قروض ومساهمات من الخزانة العامة لسداد التزاماتها.

ويرجع السبب فى ذلك الى الاختلالات فى اقتصاديات تشغيلها ومراكزها المالية، وهو ما يتمثل فى اختلال التوازن بين التكاليف والاسعار وقصور الموارد عن تغطية الاستخدامات.وهذه العوامل أدت إلى تقلص مصادر التمويل الذاتى للعديد من هذه الوحدات واعتمادها بشكل كبير على القروض، وتزايد الأعباء الملقاة عليها عاما بعد آخر،حيث باتت ترزح تحت عبء الفوائد على القروض. ومما زاد من تعقيد الأوضاع المالية بها الاختلالات فى اقتصاديات تشغيلها، وهو ما يتمثل فى اختلال التوازن بين التكاليف والإيرادات وقصور الموارد عن تغطية الاستخدامات مما يؤدى الى ازدياد العجز المرحل سنويا. فضلا عن تآكل الأصول الحقيقية لهذه الجهات نتيجة لما تتحمله من فروق أسعار لخدماتها بين أسعار البيع وتكاليف الإنتاج الفعلية. يضاف الى ذلك قيام هذه الجهات بتنفيذ حجم كبير من الاستثمارات دون ان تقابله موارد ذاتية مناسبة، وهو ما يؤدى إلى التأخر فى تنفيذ المشروعات لسنوات طويلة مما يكرس من الطاقات العاطلة وهدر الموارد أو يدفعها للاقتراض من بنك الاستثمار القومى والذى يقتر ض بدوره من الأوعية الادخارية فى المجتمع مما ينعكس بالضرورة على الدين العام وزيادته. خاصة وان معظمها يقدم مشروعات خدمية لخدمة المواطنين، ولاتولد تدفقا نقديا يغطى أعباء الاقتراض والتمويل، وهو ما ينعكس على التزامات الدولة قبل الدائنين لهذه الجهات. فالخزانة العامة مطالبة بسداد أى عجز فى سداد مديونيات لديها إما فى شكل خسائر مرحلة او فى شكل عدم القدرة على سداد الديون. ومن الغريب ان معظم هذه الجهات تملك إمكانيات عديدة للإصلاح المالى اذ أنها لديها ممتلكات مجمدة فى شكل أراض وأصول ومخزون راكد، وهذه الممتلكات غير محصورة وغير موثقة وبالتالى فان التصرف فيها محدود.

وهكذا فان الأوضاع سالفة الذكر تحتاج الى صياغة الأطر الملائمة لتلافى هذه المشكلات او على الاقل الحد من آثارها السلبية على المواطن، وكذلك المالية العامة للدولة، وفى هذا السياق ومن الضرورى ان تقوم الهيئات التى تبيع إنتاجها بأسعار اجتماعية بالعمل على الوصول بالأسعار الى السعر الاقتصادى تدريجيا وخلال فترة زمنية محددة. وبمعنى آخر توفير المرونة فى نظم التسعير ودراسة إمكانية تحريك الأسعار بما يتفق مع التغير فى التكلفة والأرقام القياسية للأسعار دون التأثير على محدودى الدخل من خلال سياسة التمييز السعرى وفقا لشرائح الاستهلاك والقدرة المالية للمستهلكين. مع ضرورة مراعاة انه يجب ان تتحمل الدولة الفرق بين السعر الاجتماعى الذى تقدم به هذه الهيئات خدماتها وتكلفة أداء الخدمة فى شكل دعم مباشر وليس مستترا. مع ضرورة دراسة اقتصاديات التشغيل بما يقضى على أوجه الإسراف، ومراجعة نظم التشغيل وقوائم التكاليف لترشيد وضبط الإنفاق وتفعيله، خاصة للهيئات ذات الطابع الخدمي.والعمل على تعميق المحاسبة عن الأداء على مستوى مراكز المسئولية. هذا فضلا عن ضرورة الاهتمام بالصيانة واستغلال الطاقات العاطلة، مع الاهتمام بالصيانة الدورية لتحجيم الأعطال.وتعميق دراسات الجدوى الفنية والاقتصادية للمشروعات الاستثمارية واستمرار متابعة اقتصاداتها تأمينا لاستيراد التكلفة.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف