ناجح ابراهيم
الحبيب «الجفرى» يقدم الإنسانية على التدين
● ذهب إلى طبيب الأسنان بعد أن افترس السوس ضرسه فشعر بألم فظيع، تنبه وقتها فقط أن للإهمال ثمنا ومغرما، هاله ما أراه الطبيب لمنظر ضرسه البشع على شاشة العرض، تذكر أن الله سخر هذا الضرس لخدمته 40 عاما دون شكوى أو اعتراض أو تردد، فأهمل نظافته ورعايته حتى تلف وتحول إلى مصدر ألم وإزعاج.
● سرح الشيخ بعيدا متأملا فقال: هكذا نفوسنا تجتهد فى خدمة أهدافنا السامية سنوات طويلة دون كلل أو ملل، ولكن إهمالنا لتزكيتها وتطهيرها يجعلها تالفة بشعة كما بدا الضرس فى الصورة، بل قد تلحق النفوس المهملة الضرر والأذى بمن كانت تخدمه بالأمس، تماما كما فعل الضرس مع صاحبه بعد أن نخره السوس.
● سأل الشيخ نفسه: هل وصلت نفسك إلى هذا المستوى من التلف؟ وبهذا القدر من البشاعة؟
● ولم لا؟! وقد أكثرت من الاستمتاع بمضغ «حلويات» مدح المتابعين؟ وأطلت التلذذ بالتهام «سكر» ثناء المحبين وتصفيق المستمعين.
● كما أهملت تنظيفها بـ«سواك» الانكسار والمراجعة حتى تراكمت عليها الأوساخ من مخلفات الشهرة والظهور، ولم تعقمها بـ«معجون» التفكر فى عظيم ستر الله.
● هكذا بدأ الشيخ الحبيب الجفرى كتابه الرائع «الإنسانية قبل التدين» فالكتاب فريد من نوعه، ومقدمته أيضا تربوية بارعة.
● فالحبيب الجفرى هو فى المقام الأول مربى جيد ومهمة التربية أشمل وأقوى وأصعب وأعمق من مهمة الداعية، يمكنك أن تعجب بكلام الداعية ولكنك تظل فى نفس المربع الخطأ الذى تقبع فيه وتقيم عليه، أما المربى فيقرأ نفسك جيدا ويأخذك بالهوينا والتدرج والرفق والأناة حتى يوصلك إلى الله، لا يخاطب مشاعرك فقط أو يثير حماستك ولكنه يأخذ بمجامع عقلك ونفسك وروحك وقلبك ليسوقها جميعا إلى الله برفق ورحمة وحزم.
● الكتاب فيه إطلالات رائعة على قضايا كثيرة متشابكة، تنسجم فى منهج واحد، هو الإصلاح وليس الثورة، والتربية وليس الهياج، وتلاقى الأرواح لا صراع السياسة والتعايش لا الصراع، والتفريق بين الاجتهاد السياسى ومخاطبة الناس باسم الله.
● وقد تعرض الكتاب لكل الازدواجية المقيتة التى تفشت فى كل الفئات فيقول: تجد ليبراليا يتكلم عن حرية التعبير، ثم تجده يبادر إلى المطالبة بسن قوانين «تمنع» الآخر من الحياة السياسية، وتجد الإسلامى الحركى ينكر على العلماء تعصبهم لمذاهبهم ويتهمهم بتقديس أئمتهم، ثم تجده ينتفض عند أول انتقاد لرمز من رموز الحركة الإسلامية وينقضّ على المنتقد بالاتهامات ابتداء من الجهل ومرورا بمداهنة السلطان ثم خيانة الدين !.
● وتجد الاشتراكى الثورى ينكر على النظام مصادرته لإرادة الشعب، ثم تجده يتهم الشعب بالتخلف والجهل لمجرد أن يكون اختياره مخالفا لتوجهه!
● ثم يوضح الشيخ «الجفرى» البدايات الحقيقية للمراجعة والتصحيح وأنها تبدأ «من شجاعة نقد الذات»: «وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِى إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ»، وهناك فرق بين جلد الذات ونقد الذات فالأول هروب من تغيير الواقع والثانى إصرار على البداية الصحيحة لتغييره، إننى أدعوكم لقراءة هذا الكتاب العميق الذى يدعو إلى الأخلاق ثم الأخلاق ثم الأخلاق.
● تحياتى للحبيب «الجفري» الذى يتمتع بحظ كبير من اسمه، فهو محب للناس ومحبوب منهم أيضا.