جمال سلطان
الغدر بالسلطة القضائية لن يمر
ما الذي كان يشغل بال "نفر" من أعضاء مجلس النواب عندما تم من خلالهم تقديم مشروع قانون لتعديل قانون السلطة القضائية ، محوره الأساس تعديل المادة (44) على وجه التحديد ، والتي تجعل الهيئات القضائية مستقلة تماما في اختيار قياداتها وتدبير شئونها الإدارية والمالية والمهنية لحماية استقلال القضاء ، وما الذي حفز هؤلاء الأعضاء لكي يتحمسوا لمنح الرئيس عبد الفتاح السيسي حق اختيار رؤساء الهيئات القضائية ، حتى وإن تسببوا في غضب عارم في أوساط القضاة كافة ، هل هناك أولوية حقيقية من هموم "الشعب" المصري تقتضي هذه الحماسة في هذا الموضوع بالذات ، وهل هناك في بر مصر من أقصاه إلى أقصاه ، من يقتنع بأن تقديم هذا الطلب هو "نيابة عن الشعب" باعتبارهم نواب الشعب ، أم نيابة عن آخرين ، كما أن البديهيات السياسية تقول بأن التشريعات عالية الحساسية مثل قوانين السلطة القضائية ينبغي أن تأخذ مداها في الحوار الشفاف ، وخاصة مع القضاة في مجالسهم العليا وفي نقاباتهم "نواديهم" ، لكن الذي حدث أن الجميع فوجئ بأن البرلمان ناقش القانون ومرره بسرعة البرق في غفلة من الجميع وبعد أن وعد القضاة بأنه لن يمر بدون مراجعتهم وأخذ رأيهم ، لكنه باغتهم ومرره فصعقهم ، ورغم المعرفة الكاملة لمجلس النواب بأن القضاة يرفضون بالإجماع أي مساس بالمادة 44 تحديدا ، لأنها مربط الفرس في استقلال القضاء ، ولو سيطرت السلطة التنفيذية عليها فقد انتهت ـ عمليا ـ فرضية استقلال القضاء .
لم أفاجأ بما يحدث الآن مع القضاء ، فالمسلسل يمضي حسب ما هو موضوع له منذ 3 يوليو 2013 ، لا فواتير لأحد تستوجب السداد ، حيث يتم التخلص تدريجيا من كل شركاء المشهد ، أو من يظنون أنهم كانوا شركاء في المشهد ، ويتم وضع الجميع تحت السيطرة الكاملة ، أو السحق الشامل ، البعض تم الفراغ من أمره ، كالبرادعي وشباب ثورة يناير ، والبعض تمت السيطرة عليه بالكامل وتحديد نطاق عمله وسقف حضوره ، مثل حزب النور والكنيسة ، وبقي الأزهر والقضاء ، والمعركة الكبرى التي تدور طوال الأشهر الماضية هي معركة السيطرة على آخر أجزاء مشهد 3 يوليو ، الأزهر والقضاء ، ويبدو أن المخرج رأى أن أخف الطرق تكلفة سياسية هي اللجوء إلى تعديلات تشريعية من خلال مجلس النواب الذي تم تخليقه بصورة محكمة بناء على صياغات قانونية "منصورية" جعلت من المستحيل على أي قوة سياسية لا تحملها السلطة التنفيذية وأذرعها أن يكون لها أي ثقل فيه أو دور ، وقد شهدنا قبل عدة أشهر محاولات التحرش بالأزهر من خلال مشروعات قوانين لإعادة صياغة طريقة اختيار شيخ الأزهر تحديدا ، وها نحن الآن نرى التحرش بالقضاء للأمر نفسه ، وهو إعادة صياغة طريقة اختيار رؤساء الهيئات القضائية .
المادة (185) من الدستور المصري تلزم بأخذ رأي القضاة في أي مشروعات قوانين تتعلق بشئونهم ، وهو إلزام يفهم منه الإلزام بداهة ، لكن البعض في مجلس النواب يرى أن هذا الإلزام هو من باب الطبطبة وجبران الخاطر و"عزومة المراكبية" ، وليس على سبيل الإلزام برأيهم ، كما أن نفس المادة الدستورية السابقة (185) تنص على أن "كل هيئة قضائية تقوم على شئونها" ، وهذا على سبيل الحصر والوضوح والجزم ، وبالتالي فأي تشريع ينزع هذا الحق منها ويمنح إدارة شئونها لغيرها هو باطل دستوريا ، كما أن المادة (188) من الدستور نفسه تنص على أن القضاء "يدير شئونه مجلس أعلى" ، لكن البرلمان "المخلق" يرى أن السيسي هو الذي يجب أن يدير شئون القضاء ، على الأقل في اختيار رئيسه ، وهذا ربما من باب أن الدستور هو نوع من الفنون والأغاني والأشعار التي تلقى في المناسبات العامة ونتجمل بها أمام "الخواجات" وليس كما يفهم "العوام" أنه أبو القوانين ومرجعيتها ، وأنه أساس الشرعية للدولة ومؤسساتها .
المعركة مع القضاء والأزهر لن تكون هينة ، كما كانت المعارك مع شركاء مشهد 3 يوليو الآخرين ، بل هي معركة محفوفة بالخطر الشديد على النظام وعلى الدولة ، خاصة وأن النظام ما زالت أمامه ملفات وتحديات خطيرة ، مفاتيحها في هاتيك المؤسستين ، وهو لن يتحمل عواقب خسارتهما في الوقت الحالي ، لكن المؤكد أن تعجل النظام وإصراره على حسم المعركة مع الاثنين بأسرع وقت يعطي الإحساس بأن لهيب صيف هذا العام لن يكون كما كان سابقه .