المصريون
عبد العزيز محمد قاسم
أردوغان وأوربا.. اللعب بالنار
كيف تقرأ سيناريوهات نهاية الأزمة الناشبة بين تركيا وأوروبا اليوم، هل ستتفاقم وتستطيل، أم أنها زوبعة استفاد منها السياسيون في البلدين، وستنتهي مع انتخابات الرئاسة التركية في أبريل؟!".


توجهت بهذا السؤال في نهاية حلقة متلهبة في برنامج "ملفات خليجية" للسيد رسول توسون النائب البرلماني التركي السابق، ولأنور مالك المفكر السياسي الجزائري المقيم في باريس، وكلي يقين إلى أن الإجابة ستكون: الزوبعة ستنتهي أو تخفّ، لأن ما نراه من تصعيد اليوم؛ هو ما يتقنه اللاعبون في ميدان السياسة، والرئيس التركي أردوغان تحديدا بارع في ذلك، وكلنا يعرف كيف استغل حادثة السفينة "مرمرة" مع إسرائيل، وبعدها أحداث حلب، والموصل، والموقف من روسيا، ولا ضير ولا لوم، فهذه السياسة وهذه ألاعيبها، بيد أن هذه المرة، لكأن أردوغان يلعب بالنار.


مضطرٌ في كل مقالة أتناول فيها هذا الزعيم التركي الملهم، أن أضع بين يدي قراءتي، روشتة جاهزة ل "الأردوغانيين" العرب، فالرجل له شعبية طاغية ولا شك، والروشتة التي أكررها من أعوام بأن الرجل نعمة على بلاده، وفعل لها ما لم يفعله أي زعيم تركي، وسيكون رمزا تاريخيا لها حال رحيله، وهو أقرب لنا -كعرب وخليج- من أي زعيم تركي أو معارضة بائسة هناك، وأردوغان نقل تركيا في غضون عقد ونصف ليجعلها في مصاف الدول الاقتصادية بالعالم، وقد تحدث توسون في الحلقة الآنفة عن تركيا قبله، وعن العلمانية المتوحشة التي كانت عليها، بما أذهلني، وكيف استطاع هذا الرجل إعادة بعض مظاهر وشعائر الإسلام لتركيا بشيء يشبه المعجزة.


كل هذا التاريخ والتقدير لأردوغان نحفظه له، ولكن يظل الرجل بشرا، وقراءتي لما يحصل اليوم بين تركيا وأوروبا تقول بأن الرجل لكأنه زاد العيار كثيرا، فالرجل في حمأة السجالية والمعركة الكلامية، استحضر "النازية"، وقال صراحة عن "ذهنية نازية" في ألمانيا وهولندا، ولم يقف هنا، بل تابع هجومه على أوروبا، واتهم قضاء الاتحاد الأوروبي بإطلاق "حملة صليبية" ضد الإسلام عبر إصدار قرار يجيز للمؤسسات حظر ارتداء الحجاب في مكان العمل.


وفي حمى الردود مرة أخرى، صعّد الأزمة مع أوروبا رغم الإدانات الصادرة عن الاتحاد الأوروبي، وندد بذهنية "فاشية" سارية في القارة محملا هولندا مسؤولية مجزرة "سريبرينيتسا" التي وقعت عام 1995، ما دفع برئيس الوزراء الهولندي مارك روتي إلى اعتبار هذه التصريحات "تزييفا بغيضا للتاريخ".


وقال أردوغان في كلمة "محكمة الاتحاد الأوروبي، محكمة العدل الأوروبية يا أخواني، بدأت حملة صليبية ضد الهلال (المسلم)". وقال: "أين هي الحرية الدينية؟ّ"، وأضاف: "عار على قيمكم، عار على قانونكم وعدالتكم"، وتابع : "أوروبا تعود بسرعة إلى أيام ما قبل الحرب العالمية الثانية".


كل ما ذكره أردوغان نتحمس وندعو له فيه، صوتٌ مفعم بالايمان والقوة والعزة بالإسلام، ولكن المسألة في نظري لا تعدو أنها سياسة ولعبُ بالنار، وكلنا نتذكر ذات الخطاب في سوريا من خمس سنوات، ولم يفعل شيئا، وتكرر في حلب، واليوم الموصل تنتهك، والقوات التركية على بعد مائتي كيلا، وهو الذي قال قبل شهرين خطابا حماسيا حيال سنة العراق، وأنهم لن يمسوا.


لا تغضبوا مني، ولكن اردوغان اليوم بهذه التصريحات عالية الحماسية، والخطابية العالية أقرب لجمال عبدالناصر، وشعاراته الجوفاء في ستينيات القرن الماضي، "من المحيط الهادر الى الخليج الثائر"، و"سنرمي إسرائيل في البحر"، لتهتف له الملايين، وتمضي خلفه، وفي النهاية كانت هزيمة 67 م، ليفيق معظم العرب على واقع الناصرية التعيسة، على فرق كبير بالتأكيد بين عبدالناصر وأردوغان، ولكن التشبيه الذي ضربت في الجموع الهاتفة، واللعب بأوتار العاطفة.


أكرر مرة أخرى، بأن من حق أردوغان أن يهتبل كل فرصة ليعزز سياسته وتوجهاته، وقد أفلح بالتصعيد مع أوروبا، فقد اصطفت أحزاب المعارضة التركية ووقفت إلى جانب حزب العدالة والتنمية الحاكم في تركيا ضد أوروبا، وصرح رئيس حزب الشعب الجمهوري المعارض كمال كليجدار حين قال «ما حدث مع وزرائنا في هولندا وألمانيا غير مقبول أبداً.. أدعو حكومتنا أن تعلّق العلاقات بين البلدين، وسندعم حكومتنا وقرارتها بشتّى الطرق»، وتبعه رئيس حزب الحركة القومية المعارض دولت باهجلي «ما حدث هو بقعة سوداء في حرية الفكر والتعبير بالديمقراطية في أوروبا. سندع هولندا تستمر فيما تفعله ونحن كتركيا سنردّ عليها بالشكل المناسب"، والشعب التركي فيه تعصب شديد لقوميته، ولا يقبل أن يمسّ أي تركي ولو كان عدوه، ويعرف أردوغان ذلك، وسيظهر آثار هذا التصعيد مع أوروبا في نتائج الانتخابات في أبريل.


لماذا وصفت ما يقوم به أردوغان بأنه لعبٌ بالنار؟!


لأن استحضار الصليبية والنازية والفاشية وكل تلك المفردات التي أتى بها من قعر التاريخ؛ سيدعم للأسف أدبيات وخطابات المتطرفين الإسلاميين ك "داعش" و"القاعدة" وكل الفصائل المتطرفة اليوم، التي تقوم على أن الحرب اليوم بينها وبين الغرب في أساسها ديني عقدي، وأردوغان فضلا على ذلك، سيعزز بهذه الردود، "الاسلاموفوبيا" التي بدأت تتشكل كظاهرة هناك في الغرب، في وقت نحن فيه أضعف ما يكون كأمة إسلامية، ضربنا التمزق، وأرهقنا التفرق، ولا حول لنا ولا قوة في مواجهة مكائدهم، وثمة جهود تبذلها دول ومؤسسات وهيئات للتخفيف من هذه الظاهرة التي لا تخدم الإنسانية في شيء.


سيرد عليّ مؤيد لأردوغان ملأه الحماس والحسّ الايماني والإسلامي: وماذا تريد منه أن يفعل، هل يعطي أوروبا خده الأيسر ليصفعوها أيضا؟


بالتأكيد لا أقول بذلك، ولا يقوله عاقل، وأجزم أن معظم الحق معه في موقفهم الكائد له، وهو يستطيع عبر الاقتصاد والجاليات التركية الكبيرة المؤيدة له التأثير على الساسة هناك، وثمة طرق عديدة يستطيع بها الرد، وأدوات يمكن له بها التأثير عليهم كموضوع اللاجئين، بعيدا عن اشعال فتيل المواجهة الدينية، وإذكاء أوارها، خصوصا أنه في موقف ضعيف، ويعرف أن القوم جميعا يتآمرون عليه لإسقاطه، وافشال مشروعه الاقتصادي الذي هو عماد شعبيته المحلية.


اللعب على وتيرة العاطفة الدينية، واستحضار تاريخ الصدام الدموي، لعبٌ بالنار، سيتجاوز تركيا الى العالم الإسلامي ككل، وهو ما أحببت التنبيه له، والاعتراض عليه.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف