علي الرغم من إدراكي أن المرء إذا خرج إلي الدنيا والناس. يشاهد. يتأمل. يسأل. يناقش. فهو يعيش حياته. أما إذا آثر المكان الذي يقيم فيه. بيتا. قرية. مدينة. بلدا. فإنه يميت حياته. علي الرغم من ذلك. فإني - أصارحك - أخشي السفر. أخشي الانتقال. لا أحب مغادرة المكان الذي أنست إليه. الأمر هنا يختلف عن رفض الانتقال من الأماكن التي تقعدني بالحنين: بحري. الاسكندرية. مكتبتي. إلخ.. أذكر كمال عبد الجواد في بين القصرين "يخيل إلي اني مطبوع علي حسب الاستقرار. وكأني أجفل من فكرة الرحلات. أعني من الحركة والاضطراب. لا من الرؤية والاستطلاع وددت لو كان من الميسور أن يطوف بي العالم حيث أنا.
المثل العامي يقول: اللي تعرفه أحسن من اللي ما تعرفوش.. ظني أن هذا المثل يسكن - بدرجة وبأخري - هؤلاء الذين يطرحون الاحتمالات أمام فكرة السفر. لا يكتفون بالمعاني الجميلة. إنما يتصورون معاني مغايرة.
أنظر إلي نفسي وإلي كراهية فكرة السفر. رغم زعمي المعلن بحبي لها. أجد في نجيب محفوظ والعقاد وعشرات غيرهم اعرفهم بالاسم. أو لم ألتقيهم. أعرف أن رفض السفر هو وجه العملة الآخر. حب السفر يقابله رفض السفر. الأسباب - في الدافع الأول - تتمثل في حب المغامرة والرفقة والتعرف إلي الناس والأشياء والدافع المقابل هو الارتباط بالقرار - التعبير للعقاد - والتخوف من المجهول. وما قد يؤذي النفس والاطمئنان إلي الفسيفساء التي تصنع كلية المشهد.. تحل الخشية في داخلي بمجرد أن يتحدد موعد السفر ربما أكون قد حفيت. لأسافر إلي هذا المؤتمر. أو تلك الندوة. أو لأشاهد ذلك البلد الذي لم أره من قبل! تداخلني راحلة للتأجيل أو الإلغاء أخفي مشاعري عن القريبين. يعلمون أني دافعت عما تصورته حقا لي في السفر.
القلق هو عنوان أيام السفر. يتركز في أسرتي. يستغرقني القلق تماما. إن تعالي رنين التليفون في حجرة الفندق توهمت انه من القاهرة. وأن في الأمر ما يخيف. الأوراق التي وضعتها علي المكتب: هل تضيع بتصور أني في غير حاجة لها؟ استعيد النسيان الذي تهمل به زوجتي إغلاق مفتاح البوتاجاز.. دائما تنبهني الرائحة. ماذا يحدث في غيابي؟
ربما تعود قلة أسفاري إلي ألفتي للمكان. يصبح المكان جزءا من مألوف حياتي لا أبدل المكان منذ تعرفي اليه للمرة الأولي. لا أبدله إلي غيره. مهما تكن المغريات.
الآن ومع تقدم السن. فإن الأسفار تتبعني: المطارات والطائرات والوقفة في طوابير الجوازات والقطارات والفنادق السؤال عن المكان الذي أريد التوجه إليه. لكن السفر في بالي أمنية دائمة. ظني أن ما بقي من طفولتي من بين ما بقي من طفولتي. هو الدهشة أمام الأشياء. ومحاولة اكتشاف ما قد لا يستحق عناء المحاولة.
كما قلت لك فإني عندما أغادر مكانا اقمت فيه فترة طويلة أو قصيرة. أحرص أن أتأمله جيدا. استوعب تفصيلاته وجزئياته ومنمنماته أدفع الذاكرة إلي أقصاها. أعرف أن ما اختزنه الآن لن يتاح لي رؤيته ثانية هذه المشاهد التي أخلفها بلا عودة تضيف إلي رصد الرؤي والتجارب والمشاهدات.