جمال زهران
السيد يسين.. فراق.. لا رحيل
الأمر الذى يكاد يصل إلى الاجماع هو أن الأستاذ سيد يسين، يمثل علامة فارقة، وصاحب بصمة مميزة فى البحث الاجتماعى بل والمجتمعي،
وفوق هذا فان امتلاكه رؤية فكرية كان متمسكا بها حتى آخر لحظات عمره وقلمه شاهد على ذلك، جعله قادرا على البحث وقراءة الواقع والتنظير له فى ضوء هذه الرؤية، فتبدو أمام عالم متماسك وواضح، وليس من الصعوبة التعامل معه. على العكس من ذلك، الباحث الهلامى الذى قد يجيد التعامل مع مفردات وإجراءات البحث العلمى لكنه منعدم أو قليل أو محدود الرؤية، فتخرج نتائج أبحاثه باهتة بلا روح، وهى فى الأصل بلا مرجعية فكرية، وتتاقض مع بعضها البعض.
فهو بحق رجل مثقف ملتزم برؤيته، موسوعى بلاشك، فقد بدأ قانونيا خريج حقوق الإسكندرية وانتهى مشواره بكونه عالما سياسيا وإستراتيجيا مرورا بالمدرسة الاجتماعية. وكلما تحدثنا معه كان لديه الحنين الدائم لمدرسة علم الاجتماع، فكثيرا ما يتحدث عن علم اجتماع القانون، ليربطه بمؤهله الأول ليسانس الحقوق، ثم علم اجتماع الأدب، لأنه كان شغوفا بالأدب العربى عموما والمصرى خصوصا ويرى أنه يجسد الواقع فى لحظة تاريخية معينة، ويمكن قراءة التاريخ من واقع الأدب بكل فروعه (الرواية ـ القصة ـ الشعر المقال)، وأن التحليل السيسيولوجى (الاجتماعي) للأدب يمكنه قراءة الواقع المجتمعى بشكل واضح، ولذلك ليس غريبا أن يبدأ عمله فى المركز القومى للبحوث الاجتماعية والجنائية، وهو الذى يضم جناحى الاجتماع والقانون، ويضم جميع أفرع العلم الاجتماعى (السياسة ـ الاقتصاد ـ الإعلام ـ علم النفس... الخ).
حيث بدأ العمل فيه عام 1957، وهو العام التالى لنشأة المركز على يد أستاذنا (جراح العلم المجتمعى وصاحب المشرط الذهبى فى تشريح الواقع المصري) الدكتور أحمد خليفة (مؤسس المركز فى قلب الحقبة الناصرية)، عام 1956، واستمر بالمركز حتى انتقل للأهرام فى بداية السبعينيات ليتولى مديرا للمركز عام 1975، وهى نقلة كبيرة فى حياته العلمية وتوجهاته المجتمعية، حيث أصبح العلم المجتمعي، مرجعيته لبناء مدرسة بحثية وطنية داخل أعرق مؤسسة صحفية فى الوطن العربى (الأهرام).
وبنفس المنطق التحليلى الذى تعلمناه منه خلال سيرتنا فى العمل البحثى فى أماكن متعددة أستطيع أن أخلص إلى أن التنقل الوظيفى من مكان لآخر هو مؤشر علمى مهم يكشف عن مسيرة التطور الفكرى وجدول أعمال اهتمامات الباحث وتشكيل الوعى والمرجعية ومن يتتبع عطاء هذا الباحث الموسوعى على مدي(60) عاما بالضبط (1957 ـ 2017م)، يكتشف حجم هذا الرجل للعلم والوطن بطبيعة الحال، وأنه ترك ميراثا علميا كبيرا، يضعه فى مرجعيات وأدبيات البحث العلمي، ومن ثم فإنه يستحيل تجاهل هذا الميراث فى التاريخ العلمى للبحث المجتمعى حاضرا ومستقبلا، فانتاجه العلمى يحتل مكانا مميزا فى مكتبتى وفى مرجعيات دراساتى وللآن. فقد كان يكتب للنخبة وباعترافه فى بعض مقالاته بالأهرام، ولا يكتب للجماهير، هكذا كان يرى نفسه داعما وضابطا لايقاع النخبة العلمية والبحثية ليحافظ على جودة البحث العلمى والعاملين فيه. كما أنه كان ناقدا موضوعيا رصينا ويصل فى نقده إلى القسوة أحيانا حين يشعر بأن المعروض أمامه قد ينحدر بالمستوى العلمى والبحثى بل الفكرى حسب رؤيته، وكنت أؤيده فى ذلك، حفاظا على مستوى البحث العلمى وأمانته وأخلاقياته.
ـ أما عن علاقتى الشخصية بهذا الرجل، فأذكرو أول لقاء لى به كمدير لمركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بالأهرام، حيث رشحنى أستاذى الدكتور بطرس غالى عام 1979، وكان رئيسا للمركز، ووزيرا للدولة للشئون الخارجية، للعمل باحثا فى المركز وبخطاب رسمى موجة للأستاذ سيد يايسين (مدير المركز). وعندما التقيته سألنى عدة أسئلة لا أنساها وهي: ما الذى فعلته من بداية دخولك كلية الاقتصاد وقسم العلوم السياسية للآن؟ ما هى الأبحاث التى كتبتها؟ ما هى المقالات التى كتبتها؟ ما هى المكتبات التى زرتها وتزورها؟ ما الذى تعرفه عن المركز؟ فأجبته بوضوح وبشكل مباشر.. شعر مع اجاباتى بالاهتمام العلمى والبحثي، فقال: وهل لديك نسخة مما كتبته؟ قلت: طبعا، قال: وهل يمكن أن تحضرها لى مع ملف كامل لك وأمامك أسبوع كامل لتجهز ذلك، وشكرته، ثم تكرر اللقاء مرة ثانية.
وقد أعددت الملف بالمطلوب.. فنظر فيه، وأنا فى رهبته أنظر لملامح وجهه خلال تصفحه، حيث من الصعب قراءة هذه الملامح (رفضا أو قبولا) من شدة حديثه. ففوجئت به يقول لي، ويبدو أنه ارتاح لي، دون أن يبدى ذلك: وما هو عملك البحثى الآن، هل تواصل الدراسات العليا: قلت: نعم، حيث سجلت رسالة الماجستير ثم اشركنى فى دورة اختبار العمل بالمركز ، شاركنى فيها الزملاء حسن أبوطالب، حسين عبدالغنى وشخصان آخران لا أذكرهما، وعملت بالمركز مؤقتا وبالمكافأة، وبالكتابة فى مجلة السياسة الدولية.
ثم عينت بالمركز القومى للبحوث الاجتماعية عام 1981، وفوجئت بمقابلة أ.السيد يسين، ليقول لي: انت هنا بتعمل ايه؟! وباستغراب، فقلت له: عينت هنا بنصيحة د.مجدى حماد لأن التعيين متوقف بالأهرام والمركز، فقال لي: أنت باحث علاقات دولية واستراتيجية ومكانك ليس هنا، وسأقدم مذكرة لتعيينك مع حسن أبوطالب بالمركز، فشكرته واعتذرت عن ذلك وفضلت المركز، لاستمر فيه عشر سنوات، ثم انتقلت للجامعة عام 1990 وللآن.
كان باحثا عملاقا مهموما بقضايا الوطن، حاضره ومستقبله، كلما التقيته لا حديث له إلا عن تحليل الواقع والمستقبل.