البديل
محمد عصمت
«فتنة الأقصر».. غاب الدستور وحضر الأمن!
بعد مناوشات استمرت 5 أيام، نجحت قبضة الأمن الثقيلة في إسدال الستار على أحداث عنف أوشكت على الاندلاع بين مسلمين ومسيحيين بقرية “العديسات” بالأقصر، على خلفية قصة حب بين مراهق مسلم ومراهقة مسيحية، قالت الشائعات إنها اعتنقت الإسلام، وإن عائلتها هربتها بالقوة إلى أحد الأديرة، وهو ما أدى إلى تصاعد الأحداث من المستوى العاطفي إلى المستوى الأمني والسياسي والديني، بعد أن تجمع عدة مئات من مسلمي القرية أمام منازل الأقباط مطالبين بتسليم الفتاة، واشتبكوا مع قوات الأمن التي اضطرت إلى استخدام القنابل المسيلة للدموع لتفريقهم، ومنعهم من الاعتداء على جيرانهم المسيحيين.

مسلمو القرية الذين يعتبرون أنفسهم يخوضون حربا مقدسة للدفاع عن الدين، يؤكدون أن الفتاة أسلمت فعلا، وأن كل ما يريدون هو أن يروا الفتاة بأنفسهم ويسألونها عن حقيقة ما يتردد حول اعتناقها الإسلام، ورغبتها في الزواج من الشاب المسلم، أما مسيحيوها، فيرون أن ابنتهم التي لم يتعد عمرها 17 سنة، لاتزال قاصرا، لا يمكن أن تكون قد أسلمت، وأنها تركت القرية هربا من استمرار تحرش الشاب المسلم بها، ومضايقته لها، بل وذهب البعض منهم إلى القول بإن الإخوان المسلمين هم الذين أشعلوا هذه الأحداث لكي يثيروا أزمات جديدة أمام النظام.

أيا كان الأمر، وأيا كانت الحقيقة بالضبط وسط هذه الروايات المتضاربة، فإن هناك عدة ملاحظات مبدئية بعضها سجل غيابا تاما عن أحداث الأقصر، وبعضها سجل حضورا مشوها، ويمكن تلخيصها فيما يلي:
** كل الأطراف المسلمة والمسيحية تعاملت مع الأزمة على الأرضية الطائفية العنصرية الضيقة، غابت عنها قيم التسامح والمحبة بل وحتى حقوق الجيرة، كبوابة وحيدة مفترضة لحل مثل هذا النوع من المشاكل، وكان اللجوء للعنف، أو على الأقل التهديد به من جانب الأطراف المسلمة، خطيئة لا تغتفر، وإساءة بالغة للإسلام نفسه، حتى ولو كانت الفتاة المسيحية قد أسلمت فعلا، وكان عليهم أن يسألوا أنفسهم: ماذا كانوا سيفعلون لو أن فتاة مسلمة هي التي أحبت مراهقا مسيحيا، ورغبت في اعتناق الديانة المسيحية، والزواج منه؟!

في نفس الوقت، فقد وقع المسيحيون أيضا في خطأ فادح بمعالجتهم الغامضة والقاصرة للقضية، وإثبات أن الفتاة لم تتحول فعلا للإسلام، وتفضيلهم تهريب الفتاة للدير وعدم احترام رغبة أهالي القرية في التأكد من صحة إسلامها، وإضفاء نوع من الغموض على مصير الفتاة، واللجوء لـ”جيتو” الكنيسة بدلا من أجهزة الدولة، وهو ما يفتح الباب أمام شائعات أكثر خطورة لدى مسلمي القرية تتعلق بما سيحدث للفتاة داخل الدير.

** سقوط الدستور المتتالي في وحل تخلفنا الاجتماعي والسياسي، فالمادة 64 منه التي تنص على أن “حرية الاعتقاد مطلقة ..”، لم تكن أكثر من حبر على ورق، ليس لها أي صدى ثقافي عند المصريين، وليس لها أي احترام حقيقي بينهم، ولا اهتمام به، لأن السلطة نفسها لا تحترمه، ولا تتقيد بنصوصه الواضحة في الكثير من القضايا المهمة، بل أنها كثيرا من تنتهكه دون أي رادع.
**لجوء أجهزة الدولة للأمن كوسيلة وحيدة للسيطرة على هذا النوع من الفتن والأزمات، دون أن تبدي أية رغبة جادة في البحث عن حلول حقيقة لها، والاستمرار في نهجها غير الديمقراطي، والابتعاد عن دولة القانون، فضلا عن خطابها السلطوي الذي يقمع أي حراك سياسي أو ثقافي كان يمكن أن يغير كل التابوهات التقليدية الزائفة في المجتمع المصري، التي حاولت ثورة يناير إسقاطها.

**الفشل الذريع لكل الدعوات التي تبنتها مؤسسة الرئاسة حول “تجديد الخطاب الديني”، والتي اكتفت بالقشور في اجتماعات رسمية باردة، مع التضييق المستمر في حرية التعبير، وهو الأمر الذي من شأنه أن ينهى مثل هذه الدعوات في مهدها، ويجعلها مجرد دخان في الهواء.

** الغياب التام لكل المعالجات الحقوقية للقضية، وتركها للعوامل الطائفية المتأججة والمتخلفة، فكل ما يتعلق بثقافة حقوق الإنسان قد تم دهسه بالأقدام من كل الأطراف، بلا استثناء.

“فتنة الأقصر” مجرد فصل جديد في مسلسل التعصب الديني في مصر، الذي ينمو ويترعرع ويتغلغل على أرضية الجهل والفقر والاستبداد، وهي أيضا تعبير عن إخفاقنا المستمر فى قراءة أزماتنا بشكل صحيح، والوقوع في فخ المعالجات الأمنية لها، دون أن نعطي أسبابها السياسية والاجتماعية والثقافية أدنى اهتمام.

الديمقراطية وحدها هي سلاحنا الغائب لمواجهة مثل هذه الأزمات، ففي مناخ الحريات يمكن فتح ملفات التجديد الديني على الأرضية الصحيحة الوحيدة، وقراءة كتب التراث بشكل نقدي حقيقي، بعقلية جديدة وبروح العصر ومعطياته، وهي أيضا التي تطلق سراح ملايين المسلمين من القراءات الفقهية الجامدة، كما تطلق كذلك سراح ملايين المسيحيين من هيمنة الكنيسة السياسية والاجتماعية عليهم، فبالحريات وحدها يمكن بناء دولة المواطنة الرشيدة، بلا عقد ولا عنف ولا خرافات ولا بطولات وهمية!
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف